ليس صحيحاً أن الصراع بين الصين واليابان يتمحور حول مجموعة من الجزر الصخرية غير المأهولة المتناثرة في بحر الصين الذي يفصل بين الدولتين. والصحيح أن الشرق الأقصى لم يعرف في تاريخه الطويل وجود قوتين كبيرتين متكافئتين في وقت واحد. ففي القرون الوسطى كانت الصين قوة كبرى، ولم تكن اليابان يومها شيئاً يُذكر. وفي القرن التاسع عشر انفتحت اليابان على الغرب وتمكّنت من مواكبة العصر الحديث، وسرعان ما أصبحت القوة الإقليمية الكبرى. وفي الوقت ذاته غرقت الصين في غياهب المخدرات التي كان الأوروبيون، وخاصة الإنجليز، يعملون على ترويجها. والتفاوت الحضاري بين اليابان والصين أغرى طوكيو -العسكرية في ذلك الوقت- بالتوسع. والمجال الوحيد لذلك كان الصين. كانت الحالة الصينية المتردية تغري بالاجتياح. وكانت العسكريتاريا اليابانية التي تعتدّ بنفسها، متحمسة لذلك. وهكذا في عام 1931 احتلت اليابان منشوريا. وفي عام 1937 حاصرت العاصمة الصينية في ذلك الوقت، نانجينغ. ويومها كتب أحد المؤرخين الصينيين ويُدعى زوفوهاي: «لم يعد للصين تاريخ بعد الآن». ولم يكن المؤرخ الصيني مخطئاً في تقديره لحجم الدمار الذي حلّ بالصين، ولا بعدد الضحايا الذين سقطوا، والذين يتجاوزون الملايين، ولكنه أخطأ في تصوّر ما حدث بعد ذلك. فقد وُلدت الصين الجديدة من رحم تلك المأساة المفجعة إلى أن أصبحت على ما هي عليه اليوم، دولة كبرى، ليس في آسيا فقط، بل في العالم كله. إلا أن شخصية الصين الجديدة مجبولة بوقائع الحرب مع اليابان وبنتائجها، وهي تضع العلاقات الصينية- اليابانية دائماً على حافة الهاوية. فخلال الاحتلال الياباني تراجعت الصين حتى أصبحت «دولة فاشلة»، إلا أن المعاناة أدّت إلى ولادة روح وطنية جديدة انبثقت منها الصين اليوم في شخصيتها وهويتها، وهي الشخصية التي تعيد صياغة آسيا من جديد من خلال المركزية الصينية. غير أن العلاقات الصينية- اليابانية لم تكن دائماً علاقات صراع وحروب. فعندما حققت اليابان قفزة كبيرة في التقدم العلمي (نتيجة انفتاحها على الحضارة والمعارف الغربية، وانغلاق الصين عن هذه الحضارة ورفضها لها) أصبحت اليابان موئلاً لطلاب العلوم والآداب الصينيين. وكان منهم «صُن يات صين» بطل الثورة الصينية في عام 1911، وكان منهم أيضاً الجنرال «تشاي كاي تشيك» الذي شكّل حكومة وطنية ضد اليابان في عام 1930. وبعد الحرب العالمية الثانية، انقسمت الصين على ذاتها بين الجنرال «تشاي كاي تشيك» (الذي اختار التحالف مع المعسكر الأميركي- الغربي، وماوتسي تونغ الذي اختار المعسكر الشيوعي- السوفييتي). وفيما كانت اليابان تداوي هزائم الحرب وجراحها العميقة (وخاصة بعد أن تعرّضت للقصف النووي في هيروشيما وناكازاكي)، كانت الصين تخوض غمار حرب أهلية أدّت إلى مشكلة تايوان، ثم غمار حركة ماوتسي تونغ التي أطلق عليها اسم «الثورة الثقافية». والآن وقد استرجعت الصين من بريطانيا جزيرة «هونج كونج»، ما زالت تطالب باسترجاع تايوان أيضاً. كما أنها تعمل على ما تصفه بـ«تأكيد الهوية الوطنية الصينية للجزر الصغيرة المتناثرة في بحر الصين»، وهو ما يضعها في حالة تماس مرة جديدة مع بعض دول شرق آسيا، وبصورة خاصة مع اليابان. إلا أن الصين هذه، وبعد أن تجاوزت محنة «الثورة الثقافية»، دخلت في عالم ما بعد الرأسمالية حيث أصبحت تنافس حتى الولايات المتحدة في عقر دارها. وكان البريطانيون أثناء الهيمنة على الصين يرددون أنه «لو استطعنا أن نقنع كل شخص صيني بتطويل قميصه بضعة سنتيمترات فقط، لكان ذلك كافياً لتشغيل مصانع النسيج في بوركشاير على مدار السنة»! أما الآن، فإن معظم دول أوروبا، وليس بريطانيا وحدها، تعتمد على الملابس الداخلية التي تستوردها من الصين. فالدولة التي كانت تُبتز من خلال ترويج المخدرات، أصبحت الآن دولة نووية تملك ترسانة صاروخية بعيدة المدى.. وبدأت فعلاً غزو الفضاء، متجاوزة المجموعة الأوروبية، وفي تنافس مع الولايات المتحدة وروسيا. أما اليابان فهي لا تزال بالنسبة للصين الجار الأقرب.. والصديق الأبعد!