من المسلمات أن بقاء الأسد يعني استمرار سيطرة إيران على سوريا ولبنان، فضلاً عن سيطرتها على العراق، ويعني انتصار المشروع الفارسي في المنطقة، وقادة إيران يعلنون مشروعهم منذ أن نجحت ثورتهم ووضعوا خطتهم لتصديرها، وهو يعني كذلك بقاء روسيا التي وقعت عقوداً طويلة المدى مع الحكومة السورية وأعلنت أنها باقية. ولعل السوريين يرون في روسيا أهون الضررين رغم أنها هي التي حمت النظام من السقوط كما صرح قادتها. إلا أن الروس سيبحثون عن مصالحهم وحدها في المستقبل، وليست لديهم إيديولوجيا يبشرون بها كما يفعل الإيرانيون الذين يحملون شعارات عقائدية يتوافق السوريون على رفضها بمختلف طوائفهم ومذاهبهم الدينية، وكان إعلانها من الأسباب التي دعت إلى ظهور شعارات دينية مواجهة، اختطفت شعارات الثورة في الحرية والكرامة والديموقراطية واتجهت لمواجهة المشروع الإيراني بخطاب ديني. وقد وقعت في الفخ الذي أراده النظام وخطط له بأن يجعل الثورة ذات صبغة إسلامية، وأن يحشوها بالتطرف والإرهاب فيحول القضية من صراع من أجل الحرية، إلى صراع مع تنظيمات إرهابية، ومع أن العالم كله يعرف حقيقة ما حدث فإنه وقع في ارتباك كبير بين استنكاره للعنف غير المسبوق الذي واجه به النظام شعبه، وبين قلقه من انتصار هذا الشعب، خشية عدم القدرة مستقبلياً على السيطرة عليه. وعلى رغم أن المجتمع الدولي يقر بأن الأسد مجرم حرب وأنه ارتكب مجازر كبرى ضد الإنسانية، ولدى العديد من دول العالم ملفات قانونية ووثائق خطيرة لإدانته أمام محاكم دولية، ولعل آخرها تقرير لجنة الأمم المتحدة الصادر أول أمس برقم A/HRC/36/55 والذي أكد على استخدام بشار الأسد لغاز السارين في الهجوم الذي وقع على مدينة خان شيخون بتاريخ 4 نيسان عام 2017، فإن بعض دول العالم بدأت تتراجع باستحياء عن فكرة رحيله مع بدء المرحلة الانتقالية. وقد أقنعها الروس بأن رحيل الأسد المفاجئ سيعني انهيار مؤسسات الدولة وانفراط عقد الجيش كما حدث في العراق، وسيفتح ساحات جديدة للصراع على السلطة كما حدث في ليبيا، وأن الأفضل هو الإبقاء على الأسد وتقليم مخالب النظام، بشكل تدريجي. ولا أستبعد أن يكون الروس أنفسهم خائفين من ردة فعل الأسد على رغم أنهم أبلغوه أنه لا دور له في مستقبل سوريا كما رشح من معلومات، ولكنهم يخشون إذا ما انقلبوا عليه وطالبوه بالرحيل الفوري أن يفسد عليهم حضورهم في الساحل حيث ثروة الغاز والنفط الكبرى الواعدة. وهم يعلمون أن لدى الأسد ميليشيات قادرة على أن تعكر صفو روسيا بدعم إيراني، ولاسيما أن إيران التي دفعت دماء ومالاً لن تقبل أن تخرج صفر اليدين، وانتهاء حكم الأسد لا يعني خروجها من سوريا فقط، وإنما سيعني خروجها من لبنان ومن العراق أيضاً، وانتهاء تهديدها للمنطقة العربية. ويبدو أن الروس حائرون، فلا هم قادرون على متابعة مشروعهم مع إيران التي ستبقى شريكاً محاصصاً في كل مقدرات المنطقة، بما سيعني تحالفاً استراتيجياً مديداً بين روسيا وإيران لن يرضى عنه الغرب طويلاً، ولا هم قادرون على التنكر لإيران والقبول باستبعادها وهي تملك قوة عسكرية على أرض سوريا، كما أنها تملك قدرة على نقل الإرهاب إلى روسيا إذا خرجت من حلفها. وأنا واثق من أن الروس يعرفون أن الأسد لا يملك قدرة على ضمان الاستقرار في سوريا، وأنه من المستحيل أن يقبل السوريون بحكمه لهم ويداه تقطران من دمائهم، والأسد نفسه يعرف استحالة ذلك، ولهذا نجده يخشى عودة المهجرين السوريين ويشيد بما حدث من تجانس اجتماعي بعد رحيل خمسة عشر مليون سوري، وهم في الأكثرية الساحقة من أهل السنة. وقد عبر عن خشيته من عودة المهجرين والنازحين حين شدد على وصفهم في خطابه الأخير بأنهم حثالة، وحين بدأ النظام حملة تهديد لكل من يفكر بالعودة، وقد عبر عن موقفه عضو في القيادة القطرية لحزب «البعث» حين جعل تقبيل البوط العسكري شرطاً لقبول عودة المعارضين المهاجرين، بينما صعد أحد ضباط المخابرات الذي يكتب باسم مستعار وقال: «ستكون أمامهم المشانق»! والطريف قوله: «إن بلداً بلا مشانق جدير بأن يخان»! وهدف هذا التصعيد هو تحذير المهاجرين من خطر التفكير في العودة إلى سوريا، وقد حدث أن تذلل بعض الخارجين كثيراً في استجداء قبول العودة ولكن النظام رفضهم بإهانة معلنة، وأما الذين انضموا إلى اتفاقيات خفض التصعيد فهم يعيشون حالة من التوجس والحذر، وقد ضمنت لهم روسيا وليس النظام بقاءهم في أماكنهم. والسؤال الأهم: هل تضمن الدول التي تدعو لبقاء الأسد أن تقبل أجهزة الأسد الأمنية بأن تخفض شيئاً من صلاحياتها، أو أن تبدل شيئاً من سلوكها؟ وهل تضمن الدول التي وقفت ضد النظام ألا ينتقم منها بعصاباته الإرهابية كما انتقم من شعبه الذي ثار عليه؟ ويبدو معيباً أن يقول أحد «لا بديل عن الأسد» فهذا يعني «لا بديل عن الديكتاتورية».