يجد الفرد نفسه مخيراً بين ثلاث جهات يمنحها ولاءه الأساسي، الأولى الدولة الوطنية، والثانية هي الأمة وبعض المجموعات والكيانات التي تتجاوزها والمرتبطة بالدين والطبقة والتحيز الأيديولوجي. والثالثة هي التجمعات الأصغر من الدولة مثل العائلة والقبيلة والطائفة والمؤسسة... الخ. ومعظم الأفراد يدينون بشكل من أشكال الولاء للجهات الثلاث معاً، ويسعون إلى إيجاد طريقة للجمع بينها، وإدارة أي اختلافات أو خلافات قد تنشب بينها، والتقليل من حجم التوتر الناجم عنها، والذي يتواجد دوماً. إن قيمة الولاء من العوامل الأصيلة التي ترسخ الاستقرار، وتدعم أركانه، عبر مساهمتها في كسب رضا الجماهير الغفيرة، ودفعها إلى الالتفاف حول المصلحة الوطنية العليا. ومن ثم فإن النظم المستبدة، المحافظ منها والثوري، وكذلك النظم الديمقراطية، تهتم بقضية الولاء. ففي الدول التي تحتكر مجموعة محددة السلطة ويقل فيها معدل دوران النخبة السياسية، يصبح الاستقرار بمعنى «تكريس الوضع القائم» هو الهدف الأساسي. والنظم الثورية تحتاج إلى الولاء لتجنيد الناس وتعبئتهم خلف مواقفها الرامية إلى إحداث تغييرات جذرية في بعض المجالات. أما الدول الديمقراطية فهي تحتاج الولاء لحشد الناس وراء مشروعات التنمية الاقتصادية والسياسية، وإعلاء حقوق المواطنة. وجميع النظم تحتاج إلى ولاء شعوبها أيام الأزمات الداخلية والخارجية. وداخل الدولة الواحدة لا يسير الولاء بالضرورة في اتجاه واحد، أو يذهب إلى جهة واحدة، إذ قد لا يتفق الناس كافة على الإخلاص لرمز أو قيمة أو فكرة أو أيديولوجيا واحدة، وإنما تتعدد الانتماءات، وتتشابك الولاءات، وقد يصبح هناك نسيج عريض من التحيزات العاطفية والمعرفية داخل حدود الدولة الواحدة، وفي ربوع المجتمع الواحد. وعلى رغم أن هذا الافتراض يقوم على مقولة أو حكمة عامة تصل إلى حد أن تكون مذهباً بل ترقى إلى مستوى القاعدة المسلّم بها وهي أن «الاختلاف سُنة الحياة» فإن هناك أسباباً كثيرة تؤدي إلى تباين الولاءات بين الناس، ومنها على سبيل المثال لا الحصر تعدد ركائز القوة وانتشارها، وتنوع الأفكار واختلاف البيئات النفسية والاجتماعية للأفراد. فالقوة المادية والمعنوية لا تتركز في فرد واحد أو مجموعة واحدة، وإنما تنتشر بين أفراد عدة ومجموعات عديدة، فهذا يستمد قوته من منصب سياسي يتبوؤه، وذاك يستند في نفوذه إلى صيت أو سمعة طيبة، وذلك يمتلك ثروة طائلة، تجعله قادراً على التأثير الاجتماعي، أو غيره يحمل في عقله معرفة دينية أو دنيوية تجلب له المكانة الاجتماعية. والأفكار ليست نمطاً واحداً، وإنما ألوان عديدة. فبالنسبة للنوع هناك التقليدي والتحديثي. وبالنسبة للاتجاه نجد اليميني واليساري ومن يقف في المنتصف أو متبع «الطريق الثالث». وبالنسبة للتصنيف القيمي هناك المتطرف والمعتدل. ويندرج هذا جميعاً تحت مسميات ثقافية عامة، مثل متأسلم وعلماني، كما يختلف الأفراد من حيث البيئة الاجتماعية التي ينتمون إليها، فهناك الريفي وهناك الحضري. ومن حيث التصنيف الطبقي نجد الناس تتفاوت بين الفقر المدقع والثراء الفاحش، وهما طرفان متناقضان بينهما عشرات المستويات التي تظهر إلى حد بعيد مدى تعقد الوضع الطبقي، إذا ما تم تحديده على أساس الدخل. وهذا التفاوت والتشابك يؤدي في النهاية إلى تعدد التحيزات العقلية، والميول النفسية للأفراد لتباين خلفياتهم من جهة، وتعارض مصالحهم من جهة ثانية، ومن ثم تتعدد ولاءاتهم. وقد يبدو ذلك في نظر البعض طريقاً للتفسخ والتضارب بين مختلف الشرائح الاجتماعية، ما يسبب قلاقل متوالية للنظام السياسي. ولكن النظرة المتأنية يمكن أن تقود إلى رأي يتناقض مع هذا إلى حد بعيد. فاختلاف الولاءات، إن كان يتم تحت راية إطار عام أو أرضية مشتركة، يؤدي إلى تفاعل قوى المجتمع مع بعضها بعضاً، بشكل أفقي، بحيث يتكفل كل منها بالآخر، ما يقلل من إمكانية أن تسير الإرادة المجتمعية بشكل رأسي لإزاحة السلطة الحاكمة. وحين تفشل هذه السلطة في الحفاظ على ذلك التوازن يحدث الانقطاع الحاد للرحلة الطبيعية للمجتمع، كأن تقوم ثورة أو يقع تمرد أو انقلاب، أو يسقط البلد في حرب أهلية.