في المرة الوحيدة التي رأيت فيها «سام فرانسيس» وجهاً لوجه، كانت في كافتيريا «واشنطن تايمز» أواخر الثمانينيات أو أوائل التسعينيات. اعتقدت أنه شخص مهووس، لكن من الواضح الآن أنه كان، في تلك الأيام، يتحول ليصبح أحد الكتاب الأميركيين الأكثر قدرة على التنبؤ بالمستقبل، الذين ظهروا خلال خمسين عاماً الماضية. ويمكن القول، من دون مبالغة، إن معظم الأشياء التي فعلها أو قالها دونالد ترامب، كانت قد سبق لفرانسيس أن دافع عنها، منذ قرابة ربع قرن. ففي سلسلة من المقالات التي كتبها فرانسيس آنذاك للمجلات المحافظة مثل «الكرونيكل، عرض ثلاث رؤى رئيسية، الأولى: هي أن العولمة كانت تخدع الطبقة الوسطى في أميركا. كانت الحرب الباردة قد انتهت لتوها في حينه، وبدا أن الرأسمالية قد خرجت منتصرة منها، كما بدت سنوات بيل كلينتون كعصر من الازدهار واسع النطاق، ورغم كل ذلك أكد فرانسيس أن اقتصاد الخدمات يدمر المزارع الصغيرة، ويحرم الطبقة العاملة من الوظائف. الرؤية الثانية: هي أن المؤسسة الجمهورية المحافظة لم تكن قادرة على فهم مغزى ما يحدث. ولم يكتف فرانسيس بالتعبير عن هذه الرؤية، بل شن حملة ضد الاقتصاديين المؤيدين للأعمال «الذين يعتقدون أن نمو الناتج المحلي الإجمالي يمكن أن يحل مشاكل البلاد»، كما انتقد الجمهوريين في واشنطن، الذين كان يعتقد أنهم أصيبوا بعدوى النخبة المتعلمة. أما رؤيته الثالثة، فكانت تتمثل في أن السياسة لم تعد قائمة على المواجهة بين اليسار واليمين كما كان الحال دائماً، وإنما كانت تتحول، بدلا من ذلك، لتصبح عبارة عن سلسلة من الصراعات الأصغر نطاقاً، المتدينون ضد العلمانيين، والقوميون ضد العولميين، والبيض ضد غير البيض.. وهي صراعات تصب في استقطاب أوسع: الطبقة الحاكمة في أميركا، مقابل طبقتها الوسطى. وكتب فرانسيس في حينه يقول إن الناخبين الأميركيين من الطبقة الوسطى، وجدوا أنفسهم معلقين من دون حزب، بعد أن فاجأتهم السياسات الاقتصادية الجمهورية المحافظة، المؤيدة للشركات من ناحية، وللتطرف الثقافي الليبرالي من ناحية أخرى، مما جعلهم يميلون لأيٍّ من الحزبين قد يقاوم الطبقة الحاكمة، لكن أياً من الحزبين لم يقدم حلا فعلياً لهم. وكتب أيضاً: «رد الفعل الوطني من جانب الناخبين أمر محتم تقريباً، وسيتخذ شكلاً شعبوياً، على الأرجح، عندما يحدث، وكلما حدث أسرع كان ذلك أفضل». وكانت حملة «بات بوكانان» عام 1991 للفوز بترشيح الحزب الجمهوري لخوض الانتخابات الرئاسية، هي الجولة الأولى في ما نعرفه الآن باسم «الشعبوية الترامبية». ففي بروفايل كتبه عن فرانسيس تحت عنوان «المنبوذ»، لاحظ الصحفي الشهير «مايكل بريندان دوجيرتي»، بذكاء، أن بوكانان وفرانسيس، لم يكونا ضد الحكومة فحسب، وإنما ضد الهيمنة الثقافية الكاملة للطبقة الحاكمة. في ذلك الوقت وجه فرانسيس مطالبةً لبوكانان من أجل شن حملة غير تقليدية (كالتي انتهى الحال بترامب لشنها)، لكنه تجاهل المطالبة. وكتب فرانسيس يقول: «إذا خسر بوكانان الترشيح، فذلك لأن الوقت المناسب لم يحن». وجاء الوقت المناسب في عام 2016، بعد 11 عاماً على وفاة فرانسيس. كان فكر فرانسيس آنذاك، مصاباً بنفس الداء الذي يهدد الترامبية، وهو داء العنصرية. وقد نصحه أصدقاؤه وحلفاؤه بعدم إظهار آرائه العنصرية صراحةً، لكنه لم يستمع لنصيحتهم لأن الأشخاص العنصريين لابد أن يعبروا عن آرائهم العنصرية آجلا أم عاجلاً. عندما ننظر إلى الأمور في عالم اليوم من خلال منظور فرانسيس، ستبدو لنا بعض الأمور واضحة، ومنها: إن ترامب ليس ظاهرة تحدث لمرة واحدة ثم تختفي، لأن المد الشعبوي آخذ في الارتفاع منذ سنوات، ولأن قاعدته الانتخابية تصر على التمسك به، لأن الأمر لا يتعلق بشخصه، وإنما بحركة محددة ضد ما يسمى الطبقة الحاكمة، ولأن المأزق الذي يجد الأعضاء الجمهوريون في الكونغرس أنفسهم فيه بشأن موضوع «الرعاية الصحية» وغيره يرجع ببساطة إلى حقيقة أنهم لا يفهمون الناخبين. ما يمكن قوله أخيراً بشأن هذه النقطة، هو أن ترامب قد لا يكون تتويجاً لتلك الحركة، وإنما مجرد محطة على الطريق نحو شعبوية أكثر نقاءً حتى من النسخة الحالية. ترامب مؤيد للأعمال التجارية اسمياً. وقد تأخذ الشعبوية التي ستأتي بعده من قوميته العرقية، ثم تضيف إليها طبقة مناهضة للمؤسسات ومعادية للتكنولوجيا. والشركات التكنولوجية الكبرى، مثل جوجل وفيسبوك وأمازون وآبل.. ترمز لكل ما كان يكرهه فرانسيس، اقتصادياً وثقافياً وديموغرافياً وقومياً.. لذلك فإنه في الوقت الذي يتدخل فيه هؤلاء المردة التكنولوجيون بشكل أعمق في تفاصيل حياتنا، بل وفي الطريقة التي نستخدم بها عقولنا، فإن الأمر المحتم في نهاية المطاف أن يصبحوا هم الموضوع المُحدّد للسياسة الأميركية. ولن يدهشني خلال ذلك كله أن يظهر ديماغوجي جديد، في شكل نسخة أكثر نقاءً، حتى من فرانسيس. ------------------ *كاتب ومحلل سياسي أميركي ------------------------- ينشر بترتيب خاص مع خدمة «نيويورك تايمز»