كان يوم الاثنين الماضي تاريخياً لملايين الأكراد في كردستان العراق، فبعد قرن من اليأس والإهمال سنحت لهم فرصة التصويت على استقلالهم في استفتاء مثير للخلاف نظمته حكومة إقليم كردستان صاحبة النفوذ على المناطق التي غالبيتها أكراد في شمال العراق، ومن شبه المؤكد أن تتمخض النتيجة التي ستظهر في الأيام القليلة المقبلة عن موافقة على الاستقلال. لكن بالنسبة للآخرين في المنطقة، يمثل هذا بداية المشكلات. وأصدر الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو جوتيريش بياناً يوم الاثنين الماضي أيضاً حذر فيه من «التأثيرات المحتملة المزعزعة للاستقرار» لهذا الاقتراع. وحكومة العراق وأيضاً حكومتا تركيا وإيران رفضت الاستفتاء، وأكد مسؤولون أكراد أن التصويت غير ملزم ويعتبرونه تجلياً فحسب للإرادة الكردية لتقرير المصير ورسالة موجهة لبغداد، لكن الحكومة العراقية أرسلت رسالتها الخاصة أعلنت فيها إجراء مناورات عسكرية مشتركة مع تركيا بالقرب من الأراضي الكردية العراقية، وفعلت إيران الشيء نفسه على امتداد حدودها وأغلقت نطاقها الجوي أمام رحلات الطيران القادمة من إقليم كردستان العراق والذاهبة إليه. ويجادل مسؤولو حكومة إقليم كردستان أن هذه لحظة طال انتظارها، ومنذ عام 2003 وبقيادة أميركية، تمت إزالة النظام «البعثي» الذي أرساه صدام حسين، وتمتع أكراد العراق بدرجة كبيرة من الاستقلال الذاتي عن بغداد واستطاعوا بفضل مواردهم النفطية الكبيرة إقامة مؤسسات لدولة محتملة في المستقبل، وقاتلت مليشيا البشمركة على الخطوط الأمامية ضد «داعش» في صراع شهد تعاوناً أمنياً وثيقاً بين البشمركة والولايات المتحدة. ويشعر مسؤولون أكراد وبخاصة مسعود البرزاني رئيس كردستان العراق أن لحظتهم الحاسمة غدت قريبة في غمرة الاضطرابات والصراعات التي تعصف بالعراق وسوريا، وأشار بيان سامي عبد الرحمن الممثل البارز لحكومة إقليم كردستان في واشنطن في وقت سابق هذا العام إلى شعور الأكراد التاريخي بالحرمان من حق إقامة دولة بعد خروج دول أخرى من أنقاض الدولة العثمانية، وقال: «التغيرات حدثت قبل نحو 100 عام وكان الأكراد متفرجين، لكن نكون متفرجين مرة أخرى»، وذكر عبد الرحمن أن الموافقة على الاستقلال في الاستفتاء ستفتح المجال لعملية مفاوضات تمهد الطريق إلى انفصال في نهاية المطاف. لكن بعض المنتقدين داخل حكومة إقليم كردستان الشهيرة بشقاقاتها يرون أن الاستفتاء محاولة من برزاني وحزبه الحاكم كي يعزز قبضته على السلطة، وهناك حزبان منافسان بارزان وهما «الاتحاد الوطني الكردستاني» و«حركة التغيير» تذمرا من الاستفتاء لكنهما شاركا فيه في نهاية المطاف، وأشارت الصحافية الكردية «أمبرين زمان» في موقع «كريستيان ساينس مونيتور» إلى أن «كلا الحزبين ينظران إلى الاستفتاء باعتباره قوة استحواذ من البرزاني الذي ضعفت قبضته بسبب التراجع الاقتصادي طويل الأمد الناتج عن انخفاض أسعار النفط عالمياً». ومن المثير للاستفزاز أن الاستفتاء أجري في منطقة كركوك المتنازع عليها والغنية بالنفط التي تتمتع فيها قوات البشمركة بنفوذ منذ عام 2014 حين اندفعوا إلى العاصمة الإقليمية للدفاع عنها ضد داعش، واحتمالات العنف تبدو مرتفعة حالياً. وحتى الولايات المتحدة التي بذلت الكثير تاريخياً من أجل دعم أكراد العراق تعارض تماماً الاستفتاء، ويخشى مسؤولون أميركيون أن يدمر الإقدام على استقلال كردي في الوقت الحالي حملتها ضد «داعش» ويضر بحملة إعادة انتخاب رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي مرشحهم المفضل في أبريل 2018. ويجادلون أن الوقت غير ملائم الآن. واعتبر العبادي الاستفتاء «غير مشروع»، بينما ترفض حكومتا تركيا وإيران نتائج الاستفتاء. وعملت الحكومة التركية عن كثب مع البرزاني، لكنها تحذر الآن من تداعيات وخيمة إذا اكتسبت حركة الانفصال المزيد من الزخم، وأعلن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان يوم الاثنين الماضي أيضاً أن «بعد هذا، دعنا نرَ عبر أي القنوات سترسل حكومة شمال العراق نفطها أو أين ستبيعه؟»، وحذر الرئيس التركي أن بلاده ستمنع تصدير نفط حكومة إقليم كردستان قائلاً: «الصنبور لدينا. وحين نغلق الصنبور ينتهي الأمر»، وتركيا تواجه بالطبع تمرداً كردياً طويل الأمد خاصا بها، وكان هذا التمرد قد اندلع مرة أخرى عشية الحرب الأهلية السورية مع ظهور منطقة سورية للأكراد ذات حكم شبه ذاتي على حدود تركيا الجنوبية. وتحرص أنقرة على إعادة مارد القومية الكردية إلى قمقمه وتخشى احتمال ظهور دولة كردية مستقلة منفصلة عن العراق. لكن ديفيد بولوك من «معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى» يعتقد أن جيران حكومة إقليم كردستان قد يخففوا من حدة مواقفهم بعد الاستفتاء. وحسب «بولوك» فإن «الأطراف الخارجية لن يكون أمامهم إلا التعامل مع التداعيات بطريقة براجماتية». وإذا لم تتغلب الحكمة، وما لم يظهر طريق مثمر للمحادثات بين بغداد وأربيل، سيندلع الشرر والالتهاب الجيوسياسي المعقد بالفعل سيتزايد تعقيداً وخاصة أمام الولايات المتحدة، ولدى مايكل ستيفنز الباحث في دراسات الشرق الأوسط في المعهد الملكي للخدمات المتحدة لدراسات الأمن والدفاع (روسي) قناعة بأن «الدول الديمقراطية الغربية لا تريد تقريباً أن يُنظر إليها باعتبارها معارضاً لإرادة جمعية لملايين الأشخاص الذين صوتوا من أجل الانفصال عن العراق، لكنها لا ترغب أيضاً في أن تكون المهندس الأساسي لتمزق دائم في منطقة متمزقة». ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»