تتوافق الدول الأوروبية على قاعدة عامة تقول: «إذا عطست ألمانيا، فإن أوروبا تصاب بالإنفلونزا (الرشح)». والانتخابات البرلمانية الأخيرة التي جرت في ألمانيا كانت في نتائجها أكثر من عطسة. ذلك أنه لأول مرة منذ سقوط النازية في الحرب العالمية الثانية، تعود هذه الحركة إلى البوندستاغ -البرلمان- مرة ثانية. صحيح أن عودتها ضعيفة، وأن عدد أعضائها قليل، إلا أن أوروبا تعرف جيداً أن الحركة النازية بزعامة هتلر بدأت ضعيفة ومستضعفة، ودخلت البوندستاغ كأقلية صغيرة.. وبقية القصة معروفة بعد ذلك. وقد جاء هذا التطور -غير المنتظر- في وقت يواجه فيه الاتحاد الأوروبي سلسلة من التحديات المصيرية. أبرزها الحرب في أوكرانيا ومضاعفاتها على العلاقات مع الاتحاد الروسي. ومواقف الرئيس الأميركي دونالد ترامب غير المستقرة من حلف شمال الأطلسي وانسحابه من معاهدة باريس للمناخ، وقرار بريطانيا الانسحاب من الاتحاد «البريكسيت»، وتعرّض بعض الدول الأعضاء أيضاً إلى التفسخ من الداخل (تصويت ما قيل إنه 90 في المئة من سكان كتالونيا على فك الارتباط بإسبانيا)، إلا أن التحدي الأخطر على ما يبدو يتمثل في تنامي ظاهرة ما يسميه الأوروبيون «الشعبوية». وهي ظاهرة تتمثل في قيام أحزاب وحركات سياسية متشددة ترفض الآخر المختلف، وتبدي مخاوف متعصبة على ما تعتبره نقاوة العنصر الأوروبي وعلى تفوق الثقافة الأوروبية، مثيرة الهواجس من موجات النازحين واللاجئين الذين يتدفقون إلى أوروبا من أفريقيا وآسيا، بما في ذلك الشرق الأوسط. وتتمثل هذه الحركات الحزبية الصاعدة في ألمانيا ب«حزب البديل». وهو الحزب الذي خرج من تحت الصفر ليصبح ثالث حزب سياسي في البلاد. وقد خسرت الحزبان المماثلان له في كل من فرنسا وهولندا. وقد نزلت خسارة الحزبين برداً وسلاماً على الحكومات الأوروبية وعلى العالم. ولكن العكس حدث في ألمانيا، وفي ألمانيا بالذات.. الأمر الذي يفتح أبواب القلق على مصاريعها. ولعل أهم ملاحظة سجلها المراقبون السياسيون حول هذا الأمر هي أن معظم الأصوات المؤيدة التي حصل عليها الحزب في صناديق الاقتراع جاءت من القسم الشرقي من ألمانيا. أي من القسم الذي كان خاضعاً للهيمنة السوفييتية. ومن هنا التساؤل: هل إن لهذه الخلفية علاقة بالنتائج التي ترجمتها صناديق الاقتراع؟ في الواقع، وعلى رغم مرور ربع قرن على الوحدة بين شطري ألمانيا، فلا يزال هناك تفاوت اجتماعي واقتصادي بينهما. ويشكو الشرقيون من أن مداخيلهم أقل، وكذلك تعويضاتهم العائلية. وبسبب ذلك فقد شهد القسم الشرقي من ألمانيا بين عامي 1990 و2015 هجرة ما نسبته 15 في المئة من السكان إلى الغرب. أما من بقوا في مدنهم وبلداتهم فقد اعتبروا بمثابة «خاسرين»! وهؤلاء هم أنفسهم الذين اقترعوا لمصلحة «حزب البديل».. وهم الذين أوصلوه إلى البوندستاغ. عندما تدفق المهاجرون -حوالي المليون- وقررت المستشارة أنجيلا ميركل استيعابهم في المجتمع الألماني، ارتفعت شعارات في القسم الشرقي من ألمانيا تندد بهذا القرار وتدعو إلى العمل أولاً على استيعاب الألمان الشرقيين قبل دعوتهم إلى استيعاب المهاجرين معهم. فالشعور بالدونية وبالإقصاء عبّر عن ذاته في رفض الحكومة وسياساتها. وهو الرفض الذي ترجمته صناديق الاقتراع فوزاً للشعبوية في ألمانيا بما تحمله من أفكار متطرفة وخطيرة. لم يصوّت «الألمان الشرقيون» للحزب اليساري، كما كان يُفترض أو يُتوقع. بل صوّتوا للحزب المتطرف في يمينيته. وكان ذلك نوعاً من التصويت السلبي الموجه إلى سياسة الحزب الديمقراطي المسيحي الحاكم بزعامة ميركل. وفي ضوء ذلك يبدو أن قضية المهاجرين إلى أوروبا (بما فيها ألمانيا) تشكل التحدي الأهم الذي يواجهه الاتحاد الأوروبي. فقد أثارت هذه الهجرة مخاوف جدية على الهوية. وذهبت هذه المخاوف في نرجسياتها إلى حد تحريك العصبيات القومية داخل العديد من الدول الأوروبية على النحو الذي عكسه الاستفتاء الكتالوني الأخير.. الذي لاقى صدى لدى جماعات ثقافية وعرقية أخرى في العديد من الدول الأوروبية. مع ذلك تبقى ألمانيا بقوتها الاقتصادية والمالية نموذجاً يخشى عليه، وبحصول اليمين المتطرف على المركز الثالث في البوندستاغ يزداد القلق على هذا النموذج بشكل محسوس!