رغم الكآبة الشعبية، فإننا نعيش بالفعل في حقبة من التقدم المذهل، وذلك بعد أن شهدنا أكبر انخفاض في نسبة الفقر العالمي في التاريخ، وتناقصاً مطرداً في عدد الحروب والنزاعات المسلحة، وأكد الاقتصاد الأميركي أنه الأفضل أداءً من بين اقتصاديات دول العالم المتقدم. التقدم حقيقي، لكنه لا يحدث في خط مستقيم، وإنما بطريقة تطلق عليها «روث ديفريز»، أستاذة الجغرافية البيئية في جامعتي واشنطن وجونز هوبكنز، طريقة «السقّاطة، البلطة، المحور، السقاطة». في البداية، يحدث بعض الاختراق الابتكاري الذي يفيد المجتمع عموماً. لكن هذا الابتكار يعطل حياة البعض (السقاطة) Ratchet. وفي الأسفل نجد (البلطة) Hatchet حيث يريد الناس التغيير. ويؤدي ذلك إلى (محور) Pivot عندما يبحث المجتمع عن ابتكارات جديدة لمعالجة المشاكل الناشئة حديثاً. وبفضل البراعة البشرية يحدث الابتكار المأمول، وينتقل التقدم درجة أخرى للأمام. وهذا الأمر ينطبق على التقدم التكنولوجي، وعلى نحو أقل خطية على التقدم الثقافي أيضاً، وذلك عندما يقوم كل عصر بتطوير الثقافة التي يحتاجها لحل المشكلات التي تعترض طريقه. خلال منتصف القرن العشرين، طور الغرب ثقافة ذات توجه جماعي للتعامل مع الآثار المدمرة للكساد الكبير وللحربين العالميتين الأولى والثانية. كان يمكن لهذه الثقافة أن تتبنى شعار «نحن في هذا معاً». لكن هذه الثقافة أصبحت بمرور الوقت ثقافة منصاعة وعديمة الفعالية. وكان لا بد أن تظهر ثقافة فردية جديدة (محور) شعارها «أنا حر في أن أكون نفسي». كان ذلك شيئاً رائعاً لبعض الوقت، لكن الفردية المفرطة تركت المجتمع مجزأً ومعزولاً ومنقسماً (بلطة)، وهو وضع نشأت معه الحاجة لشيء جديد. خلال مرحلة «البلطة» تتحول السياسة إلى شيء رديء، وتصبح معركة بين الإيجابيين المؤمنين بالتقدم الذين يشعرون بأن المجتمع يتحرك صعوداً نحو الأعلى، وبين السلبيين الذين فقدوا الثقة في التقدم، ويشعرون بأن كل شيء تحول إلى حطام. في هذه المرحلة ينقسم اليسار إلى معسكرين متناقضين؛ معسكر الإيجابيين المتفائلين ومعسكر السلبيين المتشائمين. ففي الجناح الجمهوري يتبنى الإيجابيون المتفائلون الديناميكية الرأسمالية، والمشاركة العالمية، والحركة المفتوحة للناس والأفكار. ويتبنى السلبيون المتشائمون مبادئ التلاحم العرقي والقومي والحدود المغلقة. وفي الجناح الديمقراطي اليساري تندلع المعركة بين أولئك الذين يعتقدون أن المسار الواقعي الوحيد هو إصلاح الهياكل القائمة، وأولئك الذين يعتقدون أن تلك الهياكل قد باتت مكسورة، بدرجة تستعصي على الإصلاح. وفي هذه الفترات تتحول السياسة إلى شيء رديء؛ لأن «السلبيين المتشائمين» يكون لديهم اتجاه لتبني السياسات القائمة على الدفاع عن العرق والهوية. فعندما تفقد مجموعة من البشر الثقة في التقدم العالمي، وتؤمن بعملية التدافع الصفري لنيل شريحة من فطيرة متناقصة باستمرار، فمن الطبيعي بالنسبة لمثل هذه المجموعة أن ترى هويتها العرقية كشيء جوهري، ومن الطبيعي أيضاً أن تشعر بأنها ضحية، وبأن السلسلة التاريخية من المظالم والأخطاء هي التي ستحدد شكل الآتي، وبأن التاريخ هو الذي00 سيسيطر على المستقبل. والسياسة تتحول إلى شيء رديء في مثل هذه الفترات؛ لأن المظالم الشخصية تتداخل مع المظالم الاجتماعية. فالمرء عندما يشعر بالغبن من وضعه الشخصي في المجتمع، فالحياة السياسية لا تصبح بالنسبة له مجرد خلاف حول الوسائل، وإنما تتحول إلى حرب ضد أولئك الذين يعتقد أنهم أفضل منه. وحالياً نرى الشعبيين من السلبيين اليائسين يتحكمون في الحزب الجمهوري، لدرجة تدفع بعض كبار الجمهوريين لتبني لهجة ومواقف هذه الفئة إذا ما أرادوا كسب أصوات في أي انتخابات. الديمقراطيون أقل من الجمهوريين لحد ما في ذلك، لكن يجب أن نأخذ في الاعتبار أن أحزاب يسار الوسط قد انهارت في جميع أنحاء أوروبا، وليس هناك ما يدعو للاعتقاد بأن ذلك الأمر لن يحدث في الولايات المتحدة أيضاً. أفضل ما يمكن أن يفعله المتفائلون حالياً هو احترام النقد الذي يوجهه لهم المتشائمون، من دون أن يسقطوا هم أنفسهم في هوة التشاؤم في نهاية المطاف. لكن مد الشعبوية العالمية لن يتم إيقافه فقط من خلال تمرير مشروع قانون خفض الضرائب الجديد، أو عدد قليل من مشاريع القوانين الأخرى، وإنا يجب أن يكون هناك تضامن اقتصادي واجتماعي وسياسي مع أولئك الذين تركوا في المؤخرة. هناك لحظات في التاريخ يتعرض فيها المجتمع لحالة من التردي، لكن هناك أيضاً لحظات كثيرة يعتقد عندها البعض أن المجتمع في حالة تردٍ، بينما هو في لحظة اجتياز لـ(محور) وعر. -------------------- *كاتب ومحلل سياسي أميركي ----------------------------- ينشر بترتيب خاص مع خدمة «نيويورك تايمز»