في الوقت الذي تلفظ فيه «الدولة» الداعشية أنفاسها الأخيرة في العراق وسوريا، تبادر الفلبين إلى طمر جثتها في مدينة ماراوي بعد 154 يوماً من القتال. ومدينة ماراوي هي كبرى مدن ولاية «لاناد ديل سير» في جزيرة مينداناو في جنوب الفلبين، التي يشكل المسلمون فيها الأكثرية (أي أكثر من خمس سكان الفلبين). حاول الداعشيون الذين استقدموا عناصر مقاتلة معهم من إندونيسيا وماليزيا توظيف الصراع الطويل بين المسلمين والسلطات الفلبينية المستمر منذ أكثر من ثلاثة عقود. ولكن ما حدث كان العكس تماماً. فـ«حركة التحرير الإسلامية» التي كانت تقاتل الجيش الفلبيني منذ سنوات، تحالفت هذه المرة مع الجيش ضد الداعشيين، وقاتلتهم معه. وكذلك فإن الدولتين المسلمتين الكبيرتين المجاورتين للفلبين، وهما إندونيسيا وماليزيا، تحالفتا أيضاً مع الفلبين سياسياً وأمنياً ولوجستياً. وتشكلت من الدول الثلاث جبهة واحدة، مما أسقط المشروع الداعشي. وأُعلن هذا السقوط في 23 أكتوبر الماضي. ولم يكن القضاء على المشروع الداعشي سهلاً. فقد أدى إلى تدمير شبه كامل لمدينة ماراوي المسلمة.. حتى بدت أشبه ما تكون بالموصل في العراق أو حلب في سوريا بعد هزيمة «داعش» فيهما. وتعترف السلطات الفلبينية بأن ترميم ما تهدم قد يحتاج إلى 70 سنة. ولكن من الذي سيتولى تمويل إعادة البناء؟ ومع ذلك فقد تم ترميم العلاقات بين الدولة الفلبينية و«حركة التحرير الإسلامية» التي تُعرف باسم «مورو». وهذا الاسم الذي أطلقه الفلبينيون على هذه الحركة الوطنية يعني «المغاربة». ذلك إنه عندما جاء الإسبان في القرن الثامن عشر إلى شرق آسيا واحتلوا تلك الجزر وجدوا فيها مجموعات من المسلمين، خاصة في الجزر الجنوبية وحتى في مانيلا ذاتها. وكانت تُدعى «أمان الله»، وتحولت مع الوقت إلى مانيلا. والمسلمون بالنسبة للإسبان هم المغاربة الذين خاضوا ضدهم حروب ما بعد استرجاع الأندلس. فكل مسلم عندهم هو مغاربي أو «مورو». ثم إن الإسبان أطلقوا على هذه الجزر اسم الملك الإسباني فيليب.. فكانت «الفلبين»! وتبين هذه الخلفية التاريخية أن مسلمي الفلبين هم من سكان البلاد الأصليين. ولكن إسبانيا تمكنت من نشر الكاثوليكية بين أبناء هذه الجزر لتصبح أكبر دولة كاثوليكية في شرق آسيا. ومن أجل ذلك ومنذ ثلاثة عقود، طالب المسلمون في جزيرة مينداناو الجنوبية التي يشكلون أكثرية سكانها، بالحكم الذاتي. ولا يزالون حتى اليوم يكافحون من أجل الحصول على هذا الحق. ومن الواضح أن «داعش» حاول استغلال معاناتهم بإعلان إحدى مدنهم ماراوي عاصمة له. وهو ما رفضه أهل المدينة، وسكان الجزيرة جميعاً. فكان التحالف الإسلامي مع السلطة الفلبينية الذي أدى إلى هزيمة «داعش». ومن هنا الاعتقاد بأن صفحة جديدة قد فتحت بين المسلمين الفلبينيين وحكومة مانيلا التي يترأسها الرئيس رودريكو دوتيرتي، وهو نفسه يتحدر من جزيرة مينداناو على الرغم من أنه كاثوليكي. وكذلك فإن صفحة جديدة فتحت بين الفلبين وكل من ماليزيا وإندونيسيا، بعد سنوات طويلة من العلاقات السلبية على خلفية تعاطف الدولتين المسلمتين مع حركة تحرير مينداناو الإسلامية «مورو». ويتمتع الرئيس دوتيرتي بتأييد الأكثرية في مجلسي النواب والشيوخ. ثم إن رئيسي المجلسين يتحدران، مثله أيضاً، من مينداناو. وتشكل هذه العوامل مجتمعة فرصة ذهبية لم تتوافر من قبل لتحقيق تسوية سلمية عادلة تطوي سجلاً دموياً حافلاً بالمآسي تمكّن مسلمي الفلبين من ممارسة الحكم الذاتي في الجنوب في ظل دولة واحدة عاصمتها مانيلا. كما تشكل أيضاً فرصة ذهبية أخرى لقيام تعاون بين الفلبين وجاراتها الدول المسلمة (إندونيسيا ومليزيا وبروناي). وربما تفتح الطريق أيضاً أمام تسوية قضية تقرير مصير جزيرة صباح التي يعتبرها كل من ماليزيا والفلبين تابعة له. لقد تعاونت الدول الثلاث لأول مرة ضد عدو مشترك هو الإرهاب. وتعاونت حركة تحرير مينداناو الإسلامية، ولأول مرة كذلك، مع حكومة مانيلا ضد عدو مشترك هو الإرهاب ممثلاً بالحركة الداعشية. وتشكل وثيقة السابع من أغسطس 2017 التي وقّع عليها 41 محافظاً من المسلمين والمسيحيين في ولاية «لاناد ديل سير» عنواناً لهذه الفرصة التاريخية.. التي يحرص الجميع على عدم إضاعتها.