منذ زمن ليس ببعيد كانت التكنولوجيا الرقمية تمثل الصناعة الأكثر إثارة للإعجاب. وكان كل الناس يرغبون في العمل مع شركات مثل «جوجل» و«فيسبوك» و«آبل»، إلا أن هذا المزاج انقلب رأساً على عقب خلال الفترة الماضية. وأصبح بعض الناس يعتقدون أن هذه التكنولوجيا أصبحت أكثر شبهاً بصناعة السجائر، وحيث يُنظر إلى الشركات العاملة فيها على أنها تربح مليارات الدولارات من خلال أدائها لمهمة تعويد الناس على إدمان التدخين المدمّر للصحة. ولاشك أن الخبراء والموظفين الذين يعملون في القطاع التكنولوجي يريدون أن يجعلوا عالمنا مكاناً أفضل، ولا يريدون لصناعتهم أن تسلك طريقاً منحرفاً لم يخططوه لها. وسيكون من المثير للإعجاب أيضاً لو تمكنوا من القيام بالجهد الضروري لمنع شركاتهم من أن تتحول إلى كيانات اجتماعية منبوذة. وهناك ثلاثة انتقادات رئيسة للتكنولوجيا الرقمية. ويكمن الأول في أنها تدمر عقول النشء الجديد. وقد يكون صحيحاً أن مواقع التواصل الاجتماعي وضعت حداً لشعور البشر بالوحدة، إلا أنها زادت من عزلة الناس وانقطاعهم عن بعضهم بعضاً وعززت من مخاطر ظاهرة التقاطع والاستبعاد الاجتماعي بين الناس. صحيح أيضاً أن ممارسة كتابة الرسائل النصّية وبقية النشاطات التكنولوجية تسمح لك بضبط علاقاتك الاجتماعية بشكل أفضل وأسرع، ولكنها تؤدي في الوقت نفسه إلى إضعاف القدرة على التواصل مع العالم الواقعي. وقد سعت «جين توينج» العالمة النفسية في جامعة سان دييجو بولاية كاليفورنيا من خلال كتبها ومقالاتها التي نشرتها منذ ظهور الهواتف الذكية إلى إثبات الحقائق التي تفيد بأن المراهقين أصبحوا أقل ميلاً لعقد الصداقات الجديدة، وأقل رغبة في الالتقاء مع الآخرين وجهاً لوجه، وأقل ميلاً لإنجاز الأعمال التي تحتاج إلى المجهود الفكري أو البدني. وترتفع احتمالات الإصابة بالاكتئاب بنسبة 27 بالمئة في أوساط طلاب الصف الثامن الذين يبالغون في استخدام وسائل التواصل الاجتماعي. وقد أثبتت الإحصائيات أيضاً أن المراهقين الذين يقضون أكثر من ثلاث ساعات يومياً في استخدام الأجهزة الإلكترونية ترتفع لديهم احتمالات التفكير في الانتحار بنسبة 35 في المئة عن غيرهم. وتكون نسبة الإصابة بمتلازمة الاكتئاب عند الفتيات اللاتي يقضين وقتاً طويلاً في استخدام الأجهزة الإلكترونية أعلى بنحو 50 في المئة من غيرهن. ويتعلق الانتقاد الثاني لصناعة التكنولوجيا الرقمية بأنها تكون سبباً أكيداً في انتشار ظاهرة الإدمان بطريقة مقصودة من طرف الشركات، ومن أجل هدف واضح هو جمع المزيد من الأموال. ولاشك أن هذه الشركات تفهم جيداً ما الذي يجب عليها أن تفعله حتى تقوي هذا الشعور لدى المستخدمين وتضاعف من أعدادهم من خلال إنتاج المزيد من التطبيقات الإلكترونية المسلية والمثيرة. وهذا ما يضع «مدمن التكنولوجيا» ضمن سلسلة من «حلقات الإكراه» على مواصلة إدمانه التي لا يمكنه التملّص منها. وقد ابتكرت تلك الشركات أساليب آلية لمكافأة «الأصدقاء المخلصين» الذين يتواصلون مع غيرهم كل يوم ومن دون انقطاع من أجل تشجيعهم على انتهاج «السلوك الإدماني». وقد أصبحت طريقة تدفق الأخبار عبر الأجهزة الإلكترونية أشبه بزجاجات لا قعر لها، وبحيث تقودك كل صفحة إلى الصفحة التي تليها من دون نهاية. ويكمن الانتقاد الثالث، وربما يكون الأكثر خطورة على الإطلاق، في أن الشركات التكنولوجية الكبرى مثل: آبل وأمازون وجوجل وفيسبوك، اقتربت كثيراً من أن تتحول إلى مؤسسات احتكارية لا تتردد في استخدام نفوذها وسيطرتها على الأسواق لغزو الحياة الشخصية لمستخدمي تطبيقاتها. وكان من الواضح أن هناك من يسعى إلى تخليص صناعة التكنولوجيا الرقمية من هذه الأدران والملوّثات التي علقت بها. وقد ظهرت كوكبة من النشطاء المتحمسين للعمل في هذا الاتجاه من أمثال «تريستان هاريس» الذي يحاول الآن تصويب اتجاه الشركات التكنولوجية نحو الوجهة الصحيحة. وهناك أيضاً بعض الاحتجاجات على ما يحدث تتردد في أوساط المهندسين الذين يعملون في تلك الشركات ذاتها. وسيأتي الاختراق الأكبر في هذا المجال عندما يفهم المديرون التنفيذيون لتلك الشركات، وبكل وضوح، الحقيقة الأساسية التي تفيد بأن التكنولوجيات التي يبتدعونها كل يوم مفيدة جداً لإنجاز كم ضخم من الأعمال التي تتطلب مستويات منخفضة من القدرة على التفكير، ولكنها أيضاً دمّرت القدرة على التفكير العميق التي يحتاجها الناس لممارسة حياتهم بشكل طبيعي. صحيح أن الإنترنت هي بيئة للاتصال والتواصل بين البشر، ولكنها ليست بيئة تسودها الألفة والحميمية الاجتماعية. والإنترنت أيضاً هي بيئة لتناقل المعلومات، ولكنها ليست بيئة للتفكير والتعمّق. وهي لا تقدم لك إلا الصورة المبسطة الأولى والجاهزة حول الأشياء ومن دون أن تترك لك أي فرصة للتفكير فيها. ينشر بترتيب خاص مع خدمة «نيويورك تايمز»