في عام 2000 كان عدد الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي 15 دولة. وكانت تتولى الحكم في 10 دول منها أحزاب يسارية. والآن ارتفع عدد الدول الأعضاء في الاتحاد إلى 28 دولة، وهبط عدد الدول التي تتولى الحكم فيها أحزاب يسارية إلى 6 دول فقط! وتدلّ هذه الأرقام على بساطتها على المتغيرات العميقة والجذرية التي عصفت وتعصف بالمجتمعات الأوروبية. وتدور هذه المتغيرات حول محورين أساسيين هما الاقتصاد والقيم. ويرتبط بالمحورين الموقف من المهاجرين والموقف من الإسلام. فبعد الانتخابات البرلمانية الأخيرة في ألمانيا، التي فاجأت العالم كله بعودة النازية إلى البوندستاغ –البرلمان- للمرة الأولى منذ الحرب العالمية الثانية، جاءت نتائج الانتخابات في النمسا -جارة ألمانيا- لتقدم قوة دفع جديدة لهذا التيار السياسي المتصاعد. فقد صوّت إلى جانب حزب «الشعب» وحزب «الحرية» اليمينيين المتشددين 58 في المئة من المقترعين. ويُتهم الحزبان باللاسامية، ويُجاهران بمواقفهما المتشددة ضد الإسلام وضد المهاجرين المسلمين أياً كانت الدولة التي يهاجرون منها. وقد تعهد زعيم حزب «الشعب» (وزير الخارجية سيبستيان كورتس -31 عاماً-) في برنامجه الانتخابي بإقفال المدارس الإسلامية ومنع تقديم هبات من الخارج لبناء مساجد في النمسا. وتبين الدراسات التي أجريت حول نتائج التصويت أن الأكثرية الساحقة من هذه الأصوات التي حصل عليها (31 في المئة) هي أصوات للشباب، رجالاً ونساءً. مما يعني أن ثقافة الجيل الجديد ومشاعره معبأة ضد المسلمين. وقد سبق الدولتين -ألمانيا والنمسا- في ذلك كل من المجر وبولندا وتشيكيا، حيث فازت بالانتخابات فيها أحزاب معادية للإسلام ولهجرة المسلمين في الدرجة الأولى. وليست ألمانيا والنمسا مجرد جارتين فقط. ولكنهما دولتان لهما ثقافة واحدة ولغة واحدة وتاريخ مشترك. فأدولف هتلر ولد في النمسا، ولا يزال البيت الذي وُلد فيه قائماً حتى اليوم في بلدة قريبة من العاصمة فيينا. وقد اشترته الحكومة السابقة حتى لا تضع الحركة النازية اليد عليه وتحوله إلى «مزار» لأتباعها ومناصريها. وكان مقرراً تهديم البيت وإقامة بناء سكني حديث مكانه. إلا أن هذا القرار قوبل بمعارضة شديدة اضطرت الحكومة معها إلى التراجع عنه. من أجل ذلك تبدو أوروبة -وليس فقط بعض دولها- وكأنها تمر في «ثورة صامتة»، لا يرتفع الصوت فيها إلا عند الانتخابات. صحيح أن المهاجرين (وأكثريتهم من المسلمين) شكلوا بأعدادهم الكبيرة قوة دفع لهذه الثورة الصامتة، إلا أن بداياتها تعود إلى ما قبل تفاقم الهجرة. وتحديداً إلى الستينيات من القرن الماضي. فقد أسقطت ثورة الطلاب الجنرال ديغول في فرنسا، وحملت الكاردينال ريتسنغر (الذي أصبح البابا بنديكتوس السادس عشر) على الانتقال من مؤيد لوثيقة «نوسترا إيتاتي» التي أصدرها المجمع الفاتيكاني الثاني في عام 1965 ، والتي كان هو نفسه أحد العاملين عليها، إلى مرتد عنها. وذلك كردّ فعل على تلك الثورة والتي أطاحت بسلّم القيم الأوروبية التقليدية. وقد أدى ارتداده عن تلك الوثيقة الانفتاحية على الإسلام وعلى العالم إلى صدامه مع الإسلام، وذلك قبل سنوات من بدء الهجرة المكثفة إلى أوروبا. ومنذ ذلك التاريخ والغليان المكبوت في المجتمعات الأوروبية يتفاعل بصمت.. وأحياناً بصوت عالٍ.. حتى تمكن من الخروج إلى العلن في فرنسا (مارين لوبن) وفي هولندا (فلدرز) والآن في ألمانيا والنمسا.. وفي العديد من دول أوروبا الشرقية أيضاً. ولم تكن الهجرة (بما يحمله المهاجرون من قيم اجتماعية دينية واجتماعية مختلفة، وبما يشكلون من عبء على اقتصادات الدول التي يلجأون إليها) هي السبب الوحيد لصعود حركات اليمين المتطرف في أوروبا، وإن كان الاقتصاد هو السبب المباشر. ففي عام 1999 كانت البطالة مرتفعة جداً في أوروبا عامة وفي النمسا خاصة -ولم يكن هناك مهاجرون من الشرق الأوسط- وفي ذلك العام حصل حزب «الحرية» اليميني المتطرف وحده على 27 في المئة من أصوات المقترعين في الانتخابات البرلمانية العامة. وفي ذلك العام أيضاً حصل والد مارين لوبن على نسبة عالية من الأصوات مكّنته من أن يكون مرشحاً منافساً على رئاسة الجمهورية الفرنسية. وتلعب المشاكل الاقتصادية اليوم -وخاصة البطالة- دوراً أساسياً في إثارة الأحقاد ضد المهاجرين.. الذين شاء القدر أن يكون معظمهم من المسلمين.. لتتحول هذه الأحقاد إلى استهداف الإسلام نفسه.