في عام 1989، شهد العالم أجمع سقوط جدار برلين وانهيار المعسكر الشيوعي برمته. وبدا للوهلة الأولى وكأن الديمقراطية الليبرالية حققت انتصارها الظافر والنهائي. وقد قويت بذلك شوكة الأنظمة الديمقراطية في وسط أوروبا، وسقط نظام التمييز العنصري «الآبارتيد» في جنوب أفريقيا، وظنّ الجميع أن «اتفاقات أوسلو» يمكنها أن تحقق السلام في الشرق الأوسط. إلا الأمور كلها ذهبت في الاتجاه الخاطئ عندما اتضح أن الانتماءات الضيقة والاستبداد هي القوى الحقيقية الفاعلة على الأرض في وقتنا الراهن الذي بدأت فيه بعض الديمقراطيات في التقهقر والارتداد عن شعاراتها. ولعل الأدهى والأمرّ من كل ذلك، هو حالة «الانحلال الديمقراطي» التي يشهدها وطننا ذاته. خاصة بوجود مجلس نواب أصابه الشلل، وفي وقت يحكمنا فيه رئيس يتنكر لكل الحقائق وينتهك كل الأعراف والتقاليد الأساسية للتعامل مع الأمور. وخلال استطلاع آراء أجرته مؤسستا «بروكينجز» و«أوكلا» داخل حرم الجامعات الأميركية، عبر 50 في المئة من الطلاب عن اعتقادهم بأن «الخطاب الصِّدامي» يجب إسكاته بطريقة ما، ويعتقد 20 في المئة منهم أيضاً أن من الواجب التصدي لذلك الخطاب بعنف. وأقولها باختصار أننا قد ابتلينا بنوع خاص من عدم اللباقة السياسية التي نفرط في استخدامها خلال حواراتنا ونقاشاتنا، وهذا ما دفعنا للانحراف عن الإطار الصحيح لفن الحوار. وكنا نحرص منذ وقت طويل على التعبير عن التزامنا بالقيم الديمقراطية، ولكننا نسينا الآن كيف يمكننا الدفاع عنها. وربما يحدث كل هذا لأننا أصبحنا ديمقراطيين بالتعوّد والممارسة وليس بالإيمان القوي بما يتطلبه هذا الانتماء. ويحضرني في هذا المجال كتاب «الانتصار المقبل للديمقراطية»، لمؤلفه الكاتب الألماني توماس مان (1875- 1955 الفائز بجائزة نوبل في الآداب عام 1929) وربما يُعدّ أعظم روائي في عصره. وهو الذي تمكن من الفرار من الظلم النازي ولجأ إلى الولايات المتحدة. وفي عام 1938 ألقى سلسلة من المحاضرات هاجم من خلالها الأنظمة الفاشيّة والشيوعية وصبّ جام غضبه على لجنة «نحن مع أميركا أولاً» America Firsters التي كانت تطالب بعدم تدخل الولايات المتحدة في الحرب العالمية الثانية. ويقول مان: «تنطلق الديمقراطية من حقيقة كبرى تكمن في ضمان الكرامة المطلقة للبشر رجالاً ونساءً. والبشر يتحملون المسؤوليات الأخلاقية. صحيح أنهم قد يقترفون أحيانا أعمالاً تنمّ عن الوحشية، إلا أنهم المخلوقات الوحيدة التي يمكنها أن تفهم معاني العدالة والحرية والحقيقة وأن تسعى لتبنيها. ويتألف هذا الثالوث من تركيب معقد غير قابل للتجزئة ومكرّس بالقوة الروحانية والحيوية للبشر». ويقول مان أيضاً إن الديمقراطية هي النظام الوحيد تقريباً المبني على أساس الاحترام المطلق للكرامة الإنسانية لكل واحد من بني البشر رجلاً كان أو امرأة، ولمشاعر كل إنسان يسعى لتحقيق الحرية والعدالة والحقيقة. وسيكون من الخطأ الكبير التفكير في تعليم الديمقراطية وكأنها نظام سياسي أو منهج تربوي يمكن تدريسه، أو كأنها مبدأ لحكم الأغلبية السكانية، بل هي «نظام فكري وروحي وأخلاقي». وهي ليست سلسلة من القوانين والأحكام، بل أسلوب حياة. وهي التي تحثّ كل فرد على العطاء بأكثر ما يمتلكه من قدرة بسبب ما تخلقه في نفسه من شعور بالمسؤولية الأخلاقية التي تدفعه للعمل والعطاء. وهي التي تقدح أيضاً خيال الفنان وتجعله قادراً على اكتشاف الأبعاد الجديدة للجمال، وتدفع السكان لتطوير أحيائهم، وتوحي للعلماء بأساليب جديدة للبحث عن الحقيقة. وفي أيام مان، كما في أيامنا الآن، كان للديمقراطية أعداؤها، إلى الدرجة التي بدت معها توقعات نجاحها وانتصارها ضئيلة، إلا أن مان صرخ بأعلى صوته واصفاً أعداء الديمقراطية بأنهم ليسوا فاشيّين فحسب، بل إنهم من أعداء المصالح العامة للبشر وشركاء في إشاعة الدعوات الشعبوية الديماغوجية. ولا يمارس السلطويون والاستبداديون والديماغوجيون نشاطاتهم إلا من خلال العنف والسلوكيات الغوغائية. ويعلن مان أنه يضع ثقته المطلقة في الانتصار الحتمي للديمقراطية لأنه واثق من قدرتها الذاتية على تجديد نفسها. وهو يرى أن مفهوم التجديد الدائم مرادف لمعنى الإصلاح. ولهذا السبب، فهو يدعو للإصلاح الاقتصادي والسياسي المتواصل لأن من شأن ذلك أن «يخلق نظاماً حقيقياً متكاملاً، وأن يضع الثروة المالية في خدمة الإنتاج، وسيكون هذا الإنتاج في مصلحة البشر، ويعمل البشر ذاتهم على تكريس المفاهيم المثالية التي تخلق المعنى الحقيقي للحياة». ينشر بترتيب خاص مع خدمة («يويورك تايمز»