هل تستطيع الولايات المتحدة توجيه ضربة مسبقة إلى كوريا الشمالية بحيث تدمّر ترسانتها من الصواريخ قبل أن تتمكن من استعمال أي منها؟ الاستراتيجيون العسكريون الأميركيون يجيبون بالنفي. الأمر الذي يعني أنه حتى في حال تلقت كوريا الشمالية الضربة النووية الأولى فإنها ستكون قادرة على إطلاق صواريخها إلى كل من كوريا الجنوبية واليابان على الأقل. وربما إلى الولايات المتحدة ذاتها أيضاً. ويقدر الخبراء الأميركيون عدد محطات الإطلاق المتحركة لدى كوريا الشمالية بأكثر من 250 محطة. ويؤكدون أن بعض هذه المحطات قادرة على إطلاق رؤوس نووية. ويعترف هؤلاء الخبراء أيضاً بأن من المتعذر تدمير كل محطات الإطلاق الكورية الشمالية، مما يعني أن بيونج يانج ستبقى قادرة على الرد. ويعترف هؤلاء الخبراء كذلك بأن القوات الأميركية تعرضت لتجارب سابقة فشلت فيها في اكتشاف كل مواقع مرابض صواريخ العدو المتحركة. وبالنتيجة فإن الضربة الأميركية المسبقة تقلل إلى حد كبير من قدرة كوريا الشمالية على الرد، ولكنها لا تلغي هذه القدرة كلياً. ومن أجل ذلك استبعدت الدبلوماسية الأميركية لغة التصعيد والتهديد بالويل والثبور وعظائم الأمور التي كان يرددها الرئيس دونالد ترامب، وأوفدت الى بيونج يانج أحد كبار دبلوماسييها جيفري فيلتمان –الذي عمل سفيراً للولايات المتحدة في لبنان قبل أن ينضم إلى الوفد الأميركي لدى الأمم المتحدة. وبنتيجة المباحثات التي أجراها هناك، عاد إلى واشنطن بملف مفتوح لتسوية سياسية كان ترامب قد استبعدها من حساباته استبعاداً تاماً.. حتى أن وزير خارجيته ريكس تيلرسون أعلن ولأول مرة أن الولايات المتحدة مستعدة للجلوس إلى طاولة المفاوضات مع كوريا الشمالية دون شروط مسبقة! وكانت قيادة القوات الأميركية الموجودة في كوريا الجنوبية قد أكدت لوزارة الدفاع في واشنطن قدرة كوريا الشمالية على التجسس على المناورات التي تجريها هذه القوات. وبالتالي فإن أي إجراءات احترازية تتخذها القوات الأميركية -مع القوات الكورية الجنوبية- قبيل قصف كوريا الشمالية بالسلاح النووي، ستعرف بيونج يانج بالأمر، وتستعد له، وربما تبادر هي إلى توجيه الضربة الأولى. وكذلك فلكوريا الشمالية علاقات تعاون مع كل من الصين والاتحاد الروسي. ولهاتين الدولتين عيون مفتوحة في الأرض والسماء للمراقبة. ولن تحجبا المعلومات التي تتوافر لديهما. بقي حل أخير لضمان عنصر المفاجأة. وهو إطلاق طائرات عسكرية أميركية من نوع «ب-2-س» ومن نوع «ب-1-س» الاستراتيجية التي تحتفظ الولايات المتحدة بها لنفسها. وبإمكان كل طائرة من هذه الطائرات حمل عدة رؤوس نووية. إلا أنها تحتاج إلى التحليق ساعات طويلة للوصول إلى هدفها سواء انطلقت من قواعدها في الولايات المتحدة، أو حتى من القاعدة العسكرية الأميركية في جزيرة «غوام» في المحيط الهادئ. وتحتاج هذه الطائرات إلى التزود بالوقود أثناء اجتياز هذه المسافة الطويلة مما يكشفها أمام أقمار التجسس الصينية والروسية، وبالتالي يفقد ذلك العملية العسكرية عنصر المفاجأة. وإذا خسرت هذا العنصر فإن النتائج المدمرة ستلحق على الأقل بحليفتيها اليابان وكوريا الجنوبية. وفي تقديرات الخبراء العسكريين الأميركيين فالولايات المتحدة بحاجة إلى إسقاط 500 قنبلة بزنة طن للقنبلة الواحدة تنقلها 24 طائرة مزودة بأجهزة توجيه إلكترونية دقيقة لإسقاط هذه القنابل شديدة التدمير في المواقع المحددة. وفي تقديرات هؤلاء الخبراء أيضاً أن مجموعة من الغواصات الأميركية يمكنها في الوقت ذاته أن تقترب من شواطئ كوريا الشمالية، وأن تطلق صواريخ كروز على المواقع العسكرية الكورية لمنعها من التصدي للطائرات المهاجمة. غير أن هذا السيناريو التدميري الذي هدّد به ترامب يقف مكتوف الأيدي أمام احتمال نقل مرابض الصواريخ الكورية المتحركة إلى مواقع جديدة.. مما يترك مجالاً أمام بيونج يانج لاستيعاب الضربة الأولى ومن ثم الردّ عليها. ومن أجل ذلك بذلت الدبلوماسيتان اليابانية والكورية الجنوبية جهودهما لإقناع ترامب بإعطاء فرصة حقيقية لحلّ سياسي يجنبهما ويلات الدمار النووي. ولأن الولايات المتحدة ذاتها قد لا تبقى بمنأى عن رد فعل كوريا الشمالية بالتعرض لصاروخ أو أكثر، يحمل رأساً نووياً، فقد طرح لأول مرة احتمال عدم تنفيذ أوامر ترامب بتوجيه ضربة استباقية لأسباب إنسانية ودستورية. ومن أجل ذلك كله اضطر ترامب إلى التراجع عن تهديداته «بإزالة كوريا الشمالية من الوجود»، كما اضطر إلى التراجع عن موقفه السلبي من الحوار الدبلوماسي معها.