من دون مبالغة، تعيش الإدارة الأميركية اليوم في عزلة دبلوماسية لم يسبق لها مثيل جراء قرار الرئيس دونالد ترامب الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل. فمناقشات مجلس الأمن والمواقف الدولية أظهرت أن العالم -باستثناء ندرة قوامها المضلل والمنتفع- يرفض الموقف الأميركي وينحاز إلى قرارات الشرعية الدولية على النحو الذي تبدّى عليه مساء الاثنين الماضي في مجلس الأمن. هذا في وقت أعادت «الهبة» الشعبية الفلسطينية والعربية والإسلامية بل العالمية، مقرونة بردة الفعل الرسمية الفلسطينية والعربية والإقليمية والعالمية، القضية الفلسطينية إلى صدارة المشهد الدولي الكبير الذي كانت قد فقدته خلال السنوات القليلة الماضية، وهو ما أكده فشل رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في زيارته الأوروبية ورفض دول الاتحاد الأوروبي «مناشدته» الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل أسوة بالخطوة الأميركية. وعليه، نطرح السؤال الأهم: ما الذي يجب عمله اليوم لدرء المضار وجلب المنافع؟ وفي ضوء اجتماع القيادة الفلسطينية في رام الله الاثنين الماضي، الذي كنت شاهداً عليه، بات واضحاً أن لا خلاف على أن قرار ترامب انتهاك خطير للقانون الدولي ولقرارات الشرعية الدولية وقرارات الأمم المتحدة المتعلقة بالقضية الفلسطينية، وعلى رأسها القدس. ولذلك، اختارت القيادة الفلسطينية الرسمية، ومعها قيادات المعارضة، الاستمرار، في ظل الدعم الدولي الكبير في وضع الهجوم، بعد أن كانت -ومنذ أوسلو- في موقع الدفاع، بتكثيف التحرك الدولي، وعلى رأسه الذهاب إلى مجلس الأمن حتى تزداد عزلة الولايات المتحدة عن دول العالم، وكذلك الذهاب للجمعية العامة للأمم المتحدة حتى يتم حسم هذه القضية من خلال المفاوضات، ومن ثم تشكيل لجنة قانونية باسم منظمة التحرير الفلسطينية تتولى تقديم الدعاوي ضد انتهاكات كيان الاحتلال للقانون الدولي أمام الأمم المتحدة ولجانها المختصة ومحكمة الجنايات الدولية ومحكمة العدل الدولية وغيرها من المؤسسات الدولية. هذا، علاوة على جهود إقناع المجتمع الدولي بأن يضطلع بمسؤولياته تجاه إبطال قرار ترامب واتخاذ الإجراءات كافة لرفض سياسة الأمر الواقع، وفرض الالتزام بالقرارات الأممية والإجماع الدولي بشأن الوضع القانوني لمدينة القدس، وإلزام الاحتلال بتنفيذ القرارات الأممية. وفي هذا السياق، كثر الحديث عن إحياء «اللجنة الرباعية الدولية»، التي واجهت منذ إنشائها عام 2002، عقبات كبيرة، حيث طالما أفشلت واشنطن وتل أبيب مساعيها كافة، تمهيداً لتولي الأمم المتحدة قيادة «عملية السلام» بعد أن أضحت الولايات المتحدة الأميركية وسيطاً غير مقبول، وطرفاً في الصراع منحازاً للاحتلال. وهنا نشدد على «لا» الكبيرة من الرئيس الفلسطيني محمود عباس على الدعوة الأميركية المرتقبة للعودة إلى المفاوضات، واعتبار أن الولايات المتحدة فقدت نزاهتها كوسيط للسلام، التي كان أول نتائجها إلغاء نائب الرئيس الأميركي «مايك بينس» زيارته رام الله، بعد رفض الرئيس عباس استقباله. وبالنسبة لاستخدام الولايات المتحدة لحق النقض «الفيتو» -متحدية جميع أعضاء مجلس الأمن- ضد مشروع قرار يشدد على أن القرارات الخاصة بوضع القدس ليس لها أي تأثير قانوني ويجب إلغاؤها، فقد قررت القيادة الفلسطينية التحرك نحو الجمعية العامة للأمم المتحدة، ودعوتها لجلسة طارئة تطالب الدول الأعضاء في الجمعية بالتصويت على مشروع القرار نفسه، المقدم لمجلس الأمن، حيث لن يكون بإمكان واشنطن استعمال امتياز «الفيتو» في الجمعية العامة. داخلياً، ثمة توجه يدعو القيادة الرسمية لسرعة الإعلان عن عودة منظمة التحرير قائدة للنضال الفلسطيني، وتأكيد نهجها النضالي الأصلي واستمراريته كمدخل وحيد ورئيس للعمل الفلسطيني، تماماً كما ورد في الميثاق القومي الفلسطيني في عام 1964، مع الإعلان بالتالي عن فك كل ارتباط بين المنظمة والسلطة الفلسطينية. كما قررت القيادة المسارعة إلى عقد اجتماع وحدوي قريب للمجلس المركزي الفلسطيني، بمشاركة مختلف ألوان الطيف السياسي، لبلورة رؤية شاملة تعتمد مختلف أشكال العمل السياسي والكفاحي، بما فيها المقاطعة والمقاومة بأشكالها الشعبية السلمية كافة، ووضع برنامج يجسد القواسم المشتركة، ويسعى لتجسيد شراكة حقيقية. وفي المقابل، على الفصائل الفلسطينية كافة تقوية الجبهة الداخلية الفلسطينية، وبالتالي إما قيادة أو اللحاق بركب الشعب الفلسطيني، القادر بمقاومته الشعبية، على تحويل التظاهرات والمواجهات اليومية إلى انتفاضة تحفز القيادة الرسمية والمعارضة على الاقتناع بها ودعمها في سياق التأكيد على أهمية المقاومة والانتفاضة، مع تفعيل دور الجاليات الفلسطينية حول العالم، ومعهم مناصرو حقوق الشعب الفلسطيني المتزايدون على امتداد الكرة الأرضية. وعليه، فإن على القيادة والقوى والشعب الاستفادة من الهبّة الرسمية والشعبية في العالم بأسره لإيصال المقاومة الفلسطينية الشعبية إلى مرحلة العصيان المدني الشامل. فالشعب الفلسطيني أمامه اليوم فرصة تاريخية لإعادة الاعتبار للقضية الفلسطينية بوصفها قضية تحرر وطني، وبناء بدائل عن المسارات التي اعتمدت حتى الآن. فالقيادة الفلسطينية باتت تملك القدرة اليوم على قول «لا» لمشروع الرئيس ترامب القادم، مستعينة بالدعم الدولي الواسع من أوروبا مروراً إلى الصين وروسيا وأعضاء مجلس الأمن والدول العربية والإسلامية والعالمثالثية. وخلاصة القول، المطلوب الآن مواجهة قرار ترامب عبر الإصرار على سحب الرعاية الأميركية للعملية السياسية، وإعادة دور «اللجنة الرباعية»، وعزل الموقف الأميركي عبر إدانات وقرارات دولية في الجمعية العامة بعد النجاح في عزله في مجلس الأمن، إضافة إلى تعزيز الوضع السياسي الفلسطيني عبر حث الدول التي لم تعترف بدولة فلسطين على الاعتراف بها، خاصة الدول الأوروبية، وما يقتضيه ذلك من تعزيز الحراك الشعبي محليّاً وعربيّاً ودوليّاً. هذا، بالإضافة إلى تفعيل الإجراءات الدولية تحديداً (محكمة الجنايات الدولية) لفضح جرائم الاحتلال وملاحقة إسرائيل أمام هذه المحكمة بسبب جرائمها ضد الفلسطينيين، خاصة بعد اتفاق الدول الـ123 الأعضاء في المحكمة على إضافة «جريمة العدوان» إلى اختصاصات المحكمة، بعد أن كانت قبل ذلك تختص بثلاث جرائم فقط هي «الإبادة الجماعية» و«الجرائم ضد الإنسانية» و«جرائم الحرب» بوصفها «أشد الجرائم خطورة موضع اهتمام المجتمع الدولي بأسره». إنها فرصة تاريخية، ولابد من اغتنامها!