مع حلول العام الجديد، يدرك الأميركيون، أنه على الرغم من المؤشرات القوية، الدالة على متانة الاقتصاد، واستمراره في النمو، فإن الشيء الجلي هو أن هناك شعوراً بالقلق إزاء المستقبل، ينتاب قطاعات عديدة من المجتمع الأميركي، بما في ذلك هؤلاء الذين يحيون في رغد من العيش. وعلى رغم أن الرئيس دونالد ترامب، كان قد تعهد من قبل بجعل أميركا «أمة عظيمة مرة أخرى»، فإن الغالبية العظمى من المواطنين الأميركيين يعرفون أن ذلك مازال مجرد وعد نظري، وأن الحقيقة التي لا مراء فيها هي أن دور أميركا، ومكانتها العالمية، قد شهدا تقلصاً ملحوظاً خلال السنوات الأخيرة. وعلى الرغم من أن هذه العملية كانت سابقة على عهد إدارة ترامب، فإنه ليس هناك مجال للشك في أن بعض أفعاله هي مما أدى إلى تسريع وتيرة ذلك التراجع. ومنذ الهجمات الإرهابية المروعة التي شنها تنظيم «القاعدة» على الولايات المتحدة في الحادي عشر من سبتمبر عام 2001، أنفقت البلاد تريليونات الدولارات على تعزيز الأمن الداخلي، ومكافحة التهديدات الإرهابية في الخارج، علاوة على أن حربيها في أفغانستان والعراق، واللتين ما زالتا مستمرتين حتى الآن، قد كلفتا الأميركيين خسائر بشرية ومادية فادحة للغاية، لم تكن متوقعة في عصر كان يفترض فيه أن الحرب الباردة قد انتهت، وأن أميركا باتت القوة المهيمنة التي لا ينازعها أحد في العالم. وفي الداخل، أدت معاناة البلاد من أسوأ كساد تواجهه، منذ أيام الكساد الكبير في ثلاثينيات القرن الماضي، إلى هز ثقة البلاد في نظامها المالي. وعلى الرغم من أن الانتعاش خلال عهد إدارة أوباما كان مطرداً، فإن فجوة الثروة بين أقلية صغيرة من الأميركيين والغالبية العظمى منهم، اتسعت بشكل أكبر. بالإضافة إلى ذلك، أدت البنية التحتية المتدهورة، والنظام التعليمي الرديء، والنظام الصحي الذي يفرق في الرعاية بين الأميركيين، والإدمان على المخدرات، إلى مفاقمة مشاعر الضيق لدى قطاعات كبيرة من الشعب الأميركي، الأمر الذي تمكن ترامب من الاستفادة منه، من خلال ظهوره اللافت للنظر كلاعب سياسي خلال عامي 2015 و2016، وبلغ ذروته بانتخابه رئيساً للولايات المتحدة في نوفمبر 2016. كان أمل العديد من الأميركيين الذين صوتوا ضد ترامب في الانتخابات الرئاسية، هو أنه بمجرد أن ينتقل إلى دور قائد البلاد، فإنه سيصبح مناصراً قوياً للقيم الأميركية، في منتديات القيادة العالمية. إلا أن ما حدث في الواقع، هو أن ترامب خيب آمالَ كثير من هؤلاء في السنة الأولى له في البيت الأبيض، واتخذ (في رأيهم) خطوات ملموسة لإضعاف المؤسسات الاتحادية الأميركية، ولإضعاف التزام أميركا بالقيادة العالمية. ويذكر هنا أنه، حتى مع تلك الأرقام القوية التي تشير إلى ازدهار الاقتصاد، فإن معدلات تأييد ترامب لا تزال منخفضة، كما تبين استطلاعات الرأي المختلفة. ومع أن قانون الضرائب الجديد الذي تم إقراره في الأيام الأخيرة من عام 2017، من دون دعم من الديمقراطيين في الكونجرس، قد يساعد على تحسين شعبيته، فإن معظم المواطنين الأميركيين يعتقدون أن أكبر الفوائد المالية الناتجة عن هذا القانون، ستذهب للفئة الأكثر ثراءً في المجتمع الأميركي، والتي لا تحتاج إلى أموال إضافية في الأصل، كما يعتقدون أيضاً أن فاتورة الضرائب ستضيف أكثر من تريليون دولار إلى الدَّين الوطني على مدى العقد المقبل، كما تشير إلى ذلك الإحصائيات. ومن الأمور الأخرى تلك الإجراءات التي اتخذتها إدارة ترامب لتفكيك العديد من البرامج البيئية، والبرامج ذات الأساس العلمي التي تقوم بإدارتها وكالة حماية البيئة، ووزارة الداخلية. ومنها أيضاً حقيقة أن أعداداً كبيرة من موظفي الخدمة المدنية، المؤهلين تأهيلاً عالياً، يتركون الإدارة بأعداد كبيرة، ومن ضمنهم دبلوماسيون محترفون ومحنكون، واختصاصيون في وزارة الصحة والخدمات الإنسانية، وأن الإدارة عملت على تخفيض نطاق الاستثمار في مجال العلوم والتكنولوجيا المتطورة، في الوقت الذي تتباهى فيه بإعادة بناء القوات الأميركية المستنزفة، بما في ذلك مكونها النووي، وتعد فيه بإرسال بعثات فضاء مأهولة جديدة للقمر، تنتهي ببرنامج لإرسال البشر إلى كوكب المريخ. والوسيلة الوحيدة المتاحة أمام إدارة ترامب لدفع تكلفة المزيد من البرامج الدفاعية والفضائية، هي زيادة الضرائب التي تم تخفيضها تواً بوساطة الكونجرس، أو القيام بدلاً من ذلك، وهو الاحتمال الأكثر ترجيحاً، بالعمل على خفض الإنفاق الفيدرالي على البرامج الرئيسية التي توفر شبكة أمان للأميركيين من الطبقتين المتوسطة والعاملة، مثل برامج الضمان الاجتماعي، والرعاية الطبية «ميدي كير»، والمساعدة الطبية «ميدي آيد». وإذا ما أضفنا إلى هذه القائمة المقلقة، عدم شعبية ترامب لدى أقرب حلفائنا في أوروبا، بالنسبة لكل شيء تقريباً، بدءاً من انسحابه من معاهدة باريس للمناخ، إلى سياسته بشأن القدس، وتعامله غير المفهوم مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، والمخاطر المتزايدة للحرب مع كوريا الشمالية.. فإنه يمكن أن نفهم لماذا يبدأ العديد من الأميركيين عامهم الجديد وهم محملون بمشاعر الكآبة.