امتلاك الولايات المتحدة إمدادات نفط وغاز داخلية، يقوّي اقتصادها، ويوفر لها نفوذاً عالمياً، إذ من شأنه أن يقلّص نفوذ روسيا على أوروبا ويساعد في تقوية العلاقات الصينية الأميركية انخفاضُ أسعار الطاقة ساهم في استقرار أوروبا، وساعد اليابان على احتواء كارثة فوكوشيما، وسمح للصين بالتحكم في نموها الاقتصادي، وحال دون تحول روسيا إلى قوة طاقية عظمى، وأضعف الآفاق الاقتصادية لأفريقيا جنوب الصحراء وفرة الطاقة الجديدة تعد نعمة للقوة الأميركية، ومصدر إزعاج للقوة الروسية، وهي التي ساعدت أميركا على الخروج من الركود الاقتصادي أميركا ليست ذلك المنتج العالمي القادر على تحديد أسعار الطاقة عالمياً من خلال كمية النفط التي يضخها، إذ ليست لديها شركة نفط وطنية، بل شبكة واسعة من المنتجين الصغار --------------------------- ربما لا يوجد عامل أهم وأكثر تأثيراً في الجغرافيا السياسية المعاصرة من ثورة الطاقة، التي لا تتعلق بمصادر الطاقة المتجددة مثل الطاقة الشمسية والريحية، بقدر ما تتعلق بكيفية أخذ قطاع النفط والغاز نفسه نحو التغير. وفي كتاب «كسب غير متوقع»، تنكب الأستاذة بجامعة هارفاد والمساعدة السابقة للرئيس الأميركي جورج دبليو. بوش، ميغان أوسوليفان، على تفكيك خبايا هذا القطاع وتعقيداته، لتقدم لنا نظرية جيوسياسية شاملة مؤداها أن ثورة النفط الصخري في الولايات المتحدة، والتي حوّلت هذه الأخيرة إلى منتج عالمي مهم للنفط ومصدِّر للغاز الطبيعي، أدت إلى تحول جيوسياسي مهم وكبير للغاية. فتراجع أسعار خام النفط من 100 دولار للبرميل إلى نحو 60 دولاراً أو أقل خلال العامين الماضيين، إلى جانب انتشار القدرة على استخراج النفط الصخري من خلال عمليات التكسير الهيدروليكي للصخور، متغيرين نقلا الولايات المتحدة من كونها «أكبر مستهلك للنفط الخارجي في العالم إلى وضع باتت تتمتع فيه بقدر أكبر من الاكتفاء الذاتي في مجال الطاقة»، وفقاً لما كتبته أوسوليفان في كتابها. لكن استخراج النفط من الصخور النفطية قلبَ أسواق النفط والغاز العالمية أيضا، وأفرز تداعيات جيوسياسية مهمة جداً. فإذا كانت القوى الغربية الكبرى خلال معظم القرن العشرين قد انخرطت في تهافت وصراع محمومين على النفط ومناطق استخراجه عبر العالم، فمما لا شك فيه أن المعادلة ستتغير بعد أن ساعدت التكنولوجيا على إيجاد إمدادات مهمة من الطاقة في السوق الأميركية المتعطشة للطاقة أصلاً. وهذا التحول الاستراتيجي سيكون مفيداً للولايات المتحدة، وفق أوسوليفان التي تشدد على أنه يتعين على الولايات المتحدة أن تستغل «ثورة الطاقة الجديدة» وتبني عليها بما يحقق لها الاستقلال التام في هذا المجال. ذلك أن امتلاك إمدادات نفط وغاز داخلية لا يقوّي الاقتصاد الأميركي فحسب، ولكنه أيضاً يمكن أن يوفر للولايات المتحدة نفوذاً عالميا، إذ من شأنه على سبيل المثال أن يقلّص نفوذ روسيا على أوروبا، ويمكن أن يساعد في تقوية العلاقات الصينية الأميركية. وتقول المؤلفة في هذا الصدد: «في التاريخ الحديث، من النادر أن يتغير الوضع الاستراتيجي لبلد بمثل هذا الشكل الدراماتيكي وفي مثل هذه المدة القصيرة». بيد أن التداعيات كانت عالمية أيضاً، حيث أسهم انخفاضُ أسعار الطاقة في استقرار أوروبا، وفي مساعدة اليابان على التعاطي مع تداعيات كارثة فوكوشيما النووية، كما سمح للصين بالتركيز على استراتيجية «طريق الحرير» الجديدة عبر أوراسيا بشكل أقوى وخفّف من تأثير تباطؤ نموها الاقتصادي، وحال دون تحول روسيا إلى قوة عظمى طاقية، وأضعف الآفاق الاقتصادية لبلدان أفريقيا جنوب الصحراء الغنية بالطاقة. وفي هذا السياق، تقول المؤلفة: «بشكل عام، تُعتبر وفرة الطاقة الجديدة هبة ونعمة بالنسبة للقوة الأميركية، ومصدر إزعاج للقوة الروسية». بل يمكن القول إن تقنيات الاستخراج الجديدة للنفط والغاز الصخري هي التي ساعدت أميركا على الخروج من الركود الاقتصادي. غير أنه على الرغم من أن الولايات المتحدة تُعد اليوم أكبر منتج للطاقة في العالم، إلا أنها لا تستطيع أبداً أن تكون ذلك المنتج العالمي المؤثر للطاقة القادر على تحديد أسعارها عالمياً من خلال كمية النفط التي تضخها في الأسواق، وذلك لأن الولايات المتحدة ليست دولة ذات شركة نفط وطنية، وإنما عبارة عن شبكة واسعة من المنتجين الصغار الذين يتخذون قراراتهم بأنفسهم ويركبون المخاطر بأنفسهم. وبالتوازي مع ذلك، عبّدت ثورةُ الطاقة الطريق لقارة أميركية شمالية أكثر تكاملاً سياسياً واقتصادياً. ولهذا السبب، تنتقد أوسوليفان الرئيسَ الأميركي السابق باراك أوباما لاستعدائه كندا من خلال إرجائه المتكرر لمشروع خط أنابيب «كيستون إكس إل»، ودونالد ترامب لاستعدائه المكسيك من خلال إهاناته لها وحديثه عن إقامة «جدار» بين البلدين. وفي هذا الصدد، تسلّط أوسوليفان الضوء على ما تعتبره عدم معرفة من جانب ترامب بالعلاقات الأميركية المكسيكية، مشيرة إلى أنه في عام 2015، مثلا، بلغ حجم المبادلات التجارية بين البلدين «أكثر من مليون دولار من السلع والخدمات في كل دقيقة»، كما أنه بدلاً من «تبادل المنتجات النهائية فقط، تصنع الولايات المتحدة والمكسيك السلع معاً، حيث تستخدمان سلسلات إنتاج معقدة تعبر الحدود جيئة وذهابا»، وشبكة تشمل 20 خط أنابيب للغاز الطبيعي. والواقع أن الجانب الأميركي من خليج المكسيك هو المكان الذي استُخدمت فيه وحدة عائمة لتخزين الغاز الطبيعي المسال وإعادة تحويله إلى الشكل الغازي في عام 2005 لأول مرة. فعندما يشحن الغاز الطبيعي على شكلٍ مسال، يمكن تحويله إلى غاز من جديد لدى وصوله بحراً من أجل الاستخدام الفعلي. ومثل هذه الوحدات هي التي تساعد اليوم بلداناً في أوروبا الشرقية والوسطى على استقبال الغاز من الخارج، وبالتالي التخفيف من اعتمادها على روسيا في الطاقة وإنشاء نظام طاقة عالمي أكثر تكاملاً. ونتيجة لذلك، بات الآن بوسع البلدان التي لم تعد تعتمد على أنابيب النفط القارية، استقبال كميات أكبر من الغاز الطبيعي بحراً. وهو ما أدى، بالمقابل، إلى أسعار رخيصة عبر العالم وتداعيات جيوسياسية كبيرة. وضعٌ استفادت منه الصين التي أضحت أقل اعتمادا على غاز الأنابيب القادم من روسيا تحديداً في الوقت الذي كانت تتوق فيه هذه الأخيرة، والتي تأثرت سلباً بطفرة النفط الصخري، إلى صفقة لتصدير الغاز الطبيعي. فكانت النتيجة تنازلات لبكين بخصوص السعر ما كانت لتقدمها موسكو في ظروف أخرى. وبالنسبة لروسيا، وضعَ صعودُ الغاز الطبيعي المسال البلادَ في وضع لا يخدم مصلحتها في ما يتعلق بالتنافس مع الصين على الأسواق والنفوذ في آسيا الوسطى السوفييتية سابقا. صحيح أن روسيا قد تحافظ مع ذلك على امتياز بالنظر إلى احتياطاتها الطاقية، لكنها لم تعد تستطيع استخدام الطاقة لأغراض سياسية بشكل واضح ومكشوف على نحو ما كانت تفعل في السابق. وإذا كانت روسيا قد أُضعفت، فإن أوسوليفان ترى أن الصين ستصبح من بعض النواحي لاعبا عالميا أفضل، وذلك على اعتبار أن رخص النفط والغاز سيقلّص تدريجياً حاجة الصين للصداقة مع أنظمة سلطوية غنية بالنفط، كما «سيعزز الثقةَ الصينية في أحد العناصر الأساسية للنظام الدولي الليبرالي، ألا وهو السوق»، كما تقول المؤلفة. أما في ما يتعلق بالشرق الأوسط، فتلفت أوسوليفان إلى عدد من المفارقات، ومن ذلك أن رخص سعر النفط لا ينذر بنهاية المنتجين الشرق أوسطيين، مثلما يروج البعض، وإنما سيساعدهم في الواقع، وذلك على اعتبار أنهم يستطيعون منافسة النفط الأميركي والكندي والأوروبي عالي الكلفة وإزاحته من السوق. وعلاوة على ذلك، تضيف المؤلفة، فإن الولايات المتحدة، التي باتت تحقّق قدراً أكبر من الاكتفاء الذاتي في مجال الطاقة، سيتعين عليها أن تظل حاضرة ونشطة في الشرق الأوسط من أجل محاربة الإرهاب، ومقاومة انتشار الأسلحة النووية، ودعم حلفائها في المنطقة. ومن جهة أخرى، يتوقع أن يحفّز انخفاض أسعار النفط الإصلاحات الاقتصادية في بعض الدول ويشجّعها، لكنه بالمقابل سيُضعف قضية الاستقلال الكردي نظراً لأن أي دولة كردية ناجحة ستعتمد على عائدات النفط. ولأن الطاقة ليست سوى عامل واحد فقط في الجغرافيا السياسية، وإنْ كانت عاملاً بالغ الأهمية، فإن تغيرات القوة ستكون عادة غير مباشرة عوض أن تكون واضحة بشكل مباشر. لكن هل تصبح روسيا نسخة خفيفة من يوغوسلافيا السابقة؟ وهل ستنهار نيجيريا الغنية بالنفط، أم ستواصل فنزويلا الغنية بالنفط التداعي من الداخل؟ الواقع أن الكثير يتوقف على سعر المحروقات في السنوات والعقود المقبلة. وخلاصة القول هي أن عالماً يبلغ فيه سعر برميل النفط 40 دولاراً سيكون مختلفا جداً، في الجغرافيا الطبيعية، عن عالم يبلغ فيه سعر البرميل 100 دولار! محمد وقيف الكتاب: كسبٌ غير متوقع.. كيف تقلب وفرةُ الطاقة الجديدة السياسةَ العالمية وتعزّز القوةَ الأميركية المؤلفة: ميغان أوسوليفان الناشر: سايمون آند شوستر تاريخ النشر: 2017