ماذا بعد القرار الأميركي باعتبار القدس عاصمة لإسرائيل؟ وماذا بعد القرار الإسرائيلي بتوسيع حدود مدينة القدس ومنع أي حكومة إسرائيلية من التنازل عن أي جزء منها في إطار أي عملية للتسوية السياسية؟ يجيب على هذين السؤالين مشروع جديد أعده «يواف كيش»، وهو عضو في البرلمان الإسرائيلي –الكنيست- عن حزب «الليكود» الذي يترأسه بنيامين تننياهو. يقول المشروع بإعطاء الفلسطينيين في الضفة الغربية «حقوقاً إدارية» محلية محدودة. ليس منها حق المواطنة. وبموجب المشروع يعتبر الفلسطينيون مقيمين وليسوا مواطنين. ويتمتعون بحرية إدارة شؤونهم المحلية تحت إشراف السلطة السياسية الإسرائيلية. لم يكتشف «كيش» في مشروعه البارود، فالمشروع أساساً اعتُمد لسنوات طويلة في جنوب أفريقيا. وكان السود من أهل البلاد الأصليين ضحاياه المباشرين. وقد أدى إلى الانتفاضة التي قادها من السجن نيلسون مانديلا، وأدّت في النهاية إلى سقوط النظام العنصري – الأبارتيد- وإلى ولادة الدولة الجديدة اليوم. ولكن ما كان للانتفاضة الأفريقية أن تؤتي ثمارها لو لم يتضامن معها المجتمع الدولي. وقد أدى ذلك التضامن إلى مقاطعة الحكومة العنصرية وإلى عزلها، حتى تآكلت من الداخل وانهارت تحت ضربات المقاومة الوطنية. هل يتكرر هذا السيناريو في إسرائيل؟ هناك ثلاثة أمور لا تشجع على الجواب بالإيجاب، الأمر الأول هو أن الأميركيين المتحدرين من أصول أفريقية لعبوا دوراً أساسياً في تحريض الإدارات الأميركية المتعاقبة لفرض عقوبات اقتصادية وسياسية على الحكومة العنصرية في جنوب أفريقيا. أما الآن فإن ثمة قوة أميركية داخلية تلعب دوراً معاكساً بالنسبة للقضية الفلسطينية. لا تتمثل هذه القوة في اللوبي اليهودي الأميركي فقط، ولكنها تتمثل أكثر بالحركة المسيحانية – الصهيونية، التي يشكل جمهورها (70 مليون مواطن أميركي)، القاعدة الانتخابية للرئيس دونالد ترامب، التي يتزعمها في الوقت الحاضر نائب الرئيس الأميركي «بينس» نفسه خلفاً لزعيمها السابق القس الإنجيلي جيري فولويل. وتؤمن هذه الحركة الدينية – السياسية بالعودة الثانية للمسيح، وبأن لهذه العودة شروطاً منها إقامة إسرائيل وبناء الهيكل – على أنقاض المسجد الأقصى – لأن المسيح لن يعود إلا إلى «صهيون»، ولن يعلن عن عودته إلا من «الهيكل» كما فعل أول مرة. وفي عقيدة هذه الحركة، فإن الدفاع عن إسرائيل الكبرى وعن تهويد القدس، ليس دفاعاً عن اليهود لذاتهم أو دعماً لمشروعهم الخاص، ولكنه ضرورة مسيحانية – إنجيلية. لأنه حسب اعتقادهم عندما يعود المسيح لن تبقى على الأرض عقيدة دينية أخرى سوى المسيحية الإنجيلية. وهذه العقيدة التي تسفهها الكنائس المسيحية الكاثوليكية والأرثوذكسية والإنجيلية يؤمن بها الرئيس ترامب ونائبه، كما آمن بها من قبله الرئيسان ريجان وجورج بوش الابن. الأمر الثاني أن الأفارقة في جنوب أفريقيا توحدوا في مواجهة العنصرية (الأبارتيد)، التي كانوا يعانون منها، غير أن الفلسطينيين لا يزالون منقسمين بين «فتح» و«حماس» رغم شدة الاحتلال العنصري. والدول العربية أبعد ما تكون عن الحد الأدنى من الاتحاد في مواجهة هذه العنصرية. أما الأمر الثالث، فهو أن المجتمع العالمي بهيئاته الرسمية (الأمم المتحدة)، والدينية (مجلس الكنائس العالمي والمجلس الوطني للكنائس الأميركية)، والحقوقية (المنظمة العالمية لحقوق الإنسان)، أدان العنصرية وتبنى الدفاع عن حقوق أهل البلاد الأصليين من الأفارقة. لكن هذا المجتمع لم يحرك ساكناً حتى الآن في إدانته للعنصرية التي تمارسها إسرائيل ضد العرب، مسلمين ومسيحيين، وفي الضفة الغربية بشكل خاص. غير أن ثمة ضوءاً يتسلل من وراء هذا الظلام الدامس، ويتمثل هذا الضوء في ارتفاع أصوات يهودية من داخل إسرائيل وخارجها تحذر من هذا التدهور الإسرائيلي المتسارع نحو العنصرية الدينية ونحو نظام التمييز العنصري – الأبارتيد -. ويتسلح أصحاب هذه الأصوات بالمنطق الذي يقول إذا كان اليهود قد عانوا من العنصرية الدينية في العديد من الدول الأوروبية شرقاً وغرباً، فكيف يمارسون هم أنفسهم هذه العنصرية، وقد عرفوا المآلات الكارثية التي أصابت أصحابها؟ في عام 1957 سُئل زعيم الحركة العنصرية البيضاء في الولايات المتحدة «وليم باكلي»: «هل تستطيع قوى اليمين المتطرف في المناطق الجنوبية من الولايات المتحدة أن تنجح سياسياً وثقافياً في المناطق الشمالية حيث تفقد الأكثرية العددية»؟ وكان ردّ «باكلي»: «بالتأكيد تستطيع السيطرة بقوة «تفوقها الحضاري». وفي إسرائيل اليوم، ليس بنيامين نتنياهو هو وحده «وليم باكلي» الإسرائيلي، إنه واحد من آلاف قادة اليمين المتطرف».