لست أرى ثمة تناقض بين قرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب بالمشاركة في «المنتدى الاقتصادي العالمي» الذي ينعقد سنوياً في دافوس، الذي يمكن اعتباره بطريقة ما أكبر تجمع للنُّخب السياسية والاقتصادية في العالم، وبين سياساته الموصوفة بالشعبوية، بل إنني أرى أن كل ما فعله ترامب حتى الآن هو أنه «أعاد لتلك النُّخب دورها العظيم»! ولقد سارع وزير الخزانة الأميركي ستيفن تيرنير نيوشن، للدفاع عن زيارة ترامب لدافوس بدعوى أن الرئيس لا يعتقد أبداً بأن المنتدى كان في أي وقت من الأوقات بمثابة «الملتقى المفضل للعولميين». ولقد اعتاد نيوشن على رفض كل الآراء التي تتناقض مع هذا الاعتقاد، وهو يرى أن دافوس هو مسرح يمكن أن تصل من على منبره إلى آذان العالم كل الرسائل التي يطرحها المشاركون فيه، بما فيها تلك التي يطرحها معارضو العولمة أنفسهم. وخلال العام الماضي، عندما قرر ترامب الاعتكاف عن حضور المنتدى، عثر الرئيس الصيني تشي جينبينج على الفرصة المناسبة للبروز على المسرح والإعلان على الملأ عن تأييده لسياسة التجارة الحرة، وهي السياسة ذاتها التي يعارضها ترامب كما نعلم. وبناء على ما يقوله «نيوشينن»، فإن ترامب يعتزم هذه المرة الترويج لسياسة «أميركا أولاً» وطرحها على أوسع نطاق، وهي السياسة التي تقوم على مبدأ: «من يعمل لمصلحة الولايات المتحدة فهو يعمل لمصلحة بقية دول العالم أيضاً»! ومن المؤكد أن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل سوف يكونان هناك ليقدما للعالم رؤية أوروبية بديلة لتلك الرؤى الخاصة التي يطرحها ترامب. وقبل عام من الآن، كان ترامب يجسّد الخطر الشعبوي الذي يخيّم على أوروبا والولايات المتحدة من خلال تصريحاته الرسمية التي تحمل رسالة «قومية» يعتبرها خصومها «بالغة التطرف»، وخاصة عندما قال: «ابتداءً من هذه اللحظة فصاعداً، سوف تكون أميركا في المقدمة وفي المقام الأول دائماً»، وبهذه الجملة التي ضجّت بها مسامع العالم، كان يسوّق ترامب لطريقته في إعادة الدور الريادي للولايات المتحدة وخاصة من حيث سرعة استجابتها لشكاوى ضحايا ما أسماه «المذبحة الأميركية». وأمام هذه التصريحات الاستثنائية، عبّر كبار المستثمرين والخبراء في منتدى دافوس عن مخاوفهم من «الثورة» التي يبدو وكأن ترامب يروّج لها. ومن أشهر هؤلاء، الملياردير والمدير المسؤول عن أضخم صندوق للتحوّط «راي داليو»، الذي قال لأعضاء اللجنة الإدارية لشركته: «أريد أن يبقى صوتي مرتفعاً وواضحاً لأعلن بأن الشعبوية تخيفني»، ثم أضاف: «إن القضية رقم 1 من الناحية الاقتصادية التي تواجهني كعضو فاعل في السوق، هي التساؤل عن الشكل الذي ستبدو عليه الشعبوية خلال العام أو العامين المقبلين». والآن، أصبح «داليو» يعرف الجواب على سؤاله السابق. ففي الولايات المتحدة، لم يحظَ ترامب كرئيس إلا باهتمام محدود من قبل النخبة على الأقل، ولم يستأثر بأي اهتمام يذكر كداعية شعبوي يقود أعظم دولة في العالم. والقانون التشريعي الوحيد الذي خرج به حتى الآن هو قانون الإصلاح الضريبي الذي يصبّ في مصلحة كبار الأثرياء في الولايات المتحدة ولا يتفق بأي حال من الأحوال مع معايير ومفاهيم الدعوة الشعبوية. أما ستيف بانون، هذا المفكر اليميني الذي ساعد على دفع ترامب باتجاه تبني الأفكار التي لا يحبذها لدعم الطبقة العاملة، فقد أصبح خارج إدارة البيت الأبيض، وبات هدفاً لأكثر تغريدات الرئيس تطرفاً على موقع «تويتر»، وذهب الأمر بترامب إلى حدّ وصفه في إحدى التغريدات بأنه «ستيف القذر». وقد فشل ترامب بتنفيذ الوعد الذي قطعه لناخبيه ببناء الجدار الحدودي مع المكسيك، وهبطت حالات اعتقال المهاجرين غير المسجلين في الولايات الواقعة على الحدود الجنوبية الغربية بأكثر من الربع خلال عام 2017 قارنة بالعام السابق عليه، وربما يعود سبب ذلك لانخفاض عدد المهاجرين الراغبين في الوصول إلى الولايات المتحدة، إلا أن هذا لا يُعدّ تعبيراً عن نجاح متوقع لترامب في الانتهاء من ملف الهجرة غير الشرعية. وسوف يكون حضور ترامب في دافوس هذه المرة بمثابة الخلفية المثالية لبروز أطروحات لقادة عالميين من أمثال ماكرون وميركل، وهما السياسيان المحنكان اللذان لم يكتفيا بما حققاه من انتصارات انتخابية خلال عام 2017، وما أنجزاه عندما تمكنا من مواجهة تحديات الشعبويين بذكاء، بل إنهما حققا إلى جانب كل ذلك الكثير من الإنجازات على الصعيدين السياسي والاقتصادي. ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»