بالأمس فقط واجهت الصحافة تحديات وجودية من منصات التكنولوجيا التي ساعدت أي شخص على أن ينشر كل ما يريد، واستولت على توزيع الأخبار، واغتصبت سوق الإعلانات بنوع من الاستهداف الدقيق، ولكن تبين مع مرور الوقت، أن مهنة الصحافة يمكن أن تنجح تماماً في التصدي لهذه التحديات، فالخصم يتراجع، ويحتاج العمل بالصحافة الكثير من الشجاعة. في الأسبوع الماضي، خفضت صحيفة «هافينجتون بوست» منصتها المتاحة للمدونين الذين لا يتلقون أجراً، بينما قررت شركة فيسبوك الطلب من المستخدمين تصنيف مصادر الأخبار وفقاً لموثوقيتها. وكل من هذين الإجراءين يمثل تفضيلاً واضحاً للصحافة التقليدية -حيث يحصل الناس على رواتبهم مقابل إنتاج قصص مهنية، ولأسباب وجيهة. ويظهر تقرير مؤشر «إيدلمان» للثقة لعام 2018، الذي صدر مؤخراً، تزايد الثقة في وسائل الإعلام التقليدية: ففي 28 دولة حيث تم إجراء الدراسة الاستقصائية، بلغت نسبة من يثقون في الصحافة 59%، مقابل 54% قبل عام، بينما تراجعت نسبة الثقة في منصات التواصل الاجتماعي من 53 إلى 51%. وفي كل مكان في العالم الغربي تقريباً، تعد وسائل الإعلام المهنية مصادر أكثر موثوقية للمعلومات من منصات الإنترنت. ويعد إعلان فيسبوك اعترافاً بأن الشركة لا يمكن أن تحل تماماً محل الإنتاج الصحفي المهني لعدم كفاية المحتوى الذي ينتجه المستخدم لتحقيق ذلك الهدف. وقد كتب الرئيس التنفيذي للشركة «مارك زوكربيرج» إن: «الأخبار ستبقى دائماً وسيلة حاسمة للتفاهم حول المواضيع المهمة». بيد أن الأمر أكثر من ذلك، فشركة فيسبوك تقول للمستخدمين إن استهلاك المنتج الخاص بمؤسسات إخبارية بعينها هو أفضل لهم من أن يكونوا مشوشين أو غير واثقين من مصادر المعلومات. ولقد أدى إعلان فيسبوك هذا إلى رفع سعر سهم صحيفة «نيويورك تايمز». وفي المقابل قامت شركات الإعلام المشوشة، التي تعطي أولوية لوسائل التواصل الاجتماعي، بخفض عدد العاملين بعد أن اكتشفت أن الرهان على نمو عمالقة الإنترنت الجشعين لا يجدي. وعلى هذا المنوال، من الممكن أن تجد المنافذ الصحفية الإخبارية نفسها تسأل: لماذا لا تضع المزيد من الموارد في إدارة صفحاتها الرئيسية، بدلاً من وسائل الإعلام الاجتماعية؟ إن البقاء في السباق أمر جيد، ولكن الأفضل أن يتم التقييم بشكل صحيح. والآن، وقد أصبحت منصات التكنولوجيا تدرك أنها ليست بديلاً جيداً للصحافة رفيعة المستوى، فقد حان الوقت لكي تبدأ في الدفع لها. وهذا، باختصار، هو معنى العبارة التي صدرت يوم الاثنين من «روبرت مردوخ»، الرئيس التنفيذي لإحدى المؤسسات الإخبارية الكبرى. فقد اتهم شركتي فيسبوك وغوغل بتعميم «مصادر إخبارية سفيهة»، وأشاد بهما لأنهما اعترفتا بالمشكلة وقدم طلباً: «إذا كانت شركة فيسبوك تريد التعرف على ناشرين ’موثوقين‘ فعليها سداد رسوم انتقال (بدل انتقال) لهؤلاء الناشرين مماثلة للنموذج الذي اعتمدته شركات البث. ومن الواضح أن الناشرين يعززون قيمة وسلامة الفيسبوك من خلال أخبارهم ومحتواهم لكنهم لا يُكافؤون كما ينبغي مقابل خدماتهم. وبدل الانتقال هذا سيكون له تأثير طفيف على أرباح الفيسبوك، ولكن تأثيره كبير على فرص نجاح الناشرين والصحفيين». ونظراً لاعتراف «زوكربيرج» بقيمة الأخبار بالنسبة للهدف المعلن لشركته -ربط الناس وبناء المجتمعات- فهذا اقتراح عادل. ويجب أن يكون ناشرو الأخبار على استعداد لمحاربة إعادة نشر محتوى أخبارهم. وقد نجح هذا الأمر بالنسبة لصناعة الموسيقا: فشركة فيسبوك تدفع رسوم الترخيص للموسيقا المستخدمة في مقاطع الفيديو المنزلية. وإذا ضغطت المنافذ الإخبارية «الموثوقة» على شركة فيسبوك، فستدفع لها هي أيضاً. وعلى رغم ذلك، يجب ألا يتوقف ناشرو الأخبار عند هذا الحد، فمن العيب أن تصبح وسائل الإعلام الاجتماعية ومحركات البحث هي قنوات التوزيع الرئيسة بالنسبة للعديد منهم، لتحل محل مواقعهم الخاصة، وتقوض عائدات الإعلانات والاشتراكات على حد السواء، وبسبب هذا فإن أي تغيير في الاستراتيجية من قبل فيسبوك وغوغل يتطلب تعديلات، وأحياناً تغييرات كبيرة، في طريقة عرض المحتوى. ويحتاج الناشرون إلى إيلاء مزيد من الاهتمام لمشروعات مثل المتصفح السريع «بريف»، المصمم لمساعدتهم في الحصول على الأموال مباشرة، أو من خلال تقاسم أرباح الإعلانات، وهم أيضاً بحاجة إلى العمل بشكل جاد لتغيير معايير صناعة الإعلانات على الإنترنت، وتحويلها من تجارة غير شريفة في البيانات الشخصية، التي يتم جمعها خلسة، إلى ترتيبات واعية يتم فيها دفع المال للأشخاص، نقداً وفي محتوى عالي الجودة، لمشاهدة الإعلانات. ومن ناحية أخرى، فقد حان الوقت أيضاً لإعداد اتفاقيات على مستوى الصناعة لا يتم تجاوزها بسهولة من خلال مسح ذاكرة التخزين المؤقت، أو فتح نافذة مستترة في المتصفح، فهذه الاتفاقيات من شأنها، على أقل تقدير، المساعدة على التفاوض مع منصات الإنترنت على رسوم الانتقال. ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»