إن كانت السياسة تبدأ بالكلام، كأي فعل إنساني واجتماعي، فإنها في الوقت نفسه لا تخاصم الصمت، بل إنه قد يكون أحياناً أحد تعبيراتها المتعددة. وينطوي هذا في حد ذاته على مفارقة أو مجاز، ولاسيما في أذهان مَن ارتبطت الممارسة السياسية في أذهانهم بالصخب والحركة الدائبة، والنزوع الدائم للفعل الظاهر. ولكن تجاوُز هذا التصور الأكثر حضوراً في الأذهان والنظر إلى ما وراءه يفتح عيوننا على حقيقة أخرى تقول إن الصمت طالما كان وسيلة للمقاومة، أو الاحتجاج غير المعلن، ويبدو أحياناً أشبه بالتيارات التي تنساب في الأعماق بهدوء تحت الأمواج التي تتلاطم على السطح، أو أشبه بالسكون التام للريح أو حتى النسيم، الذي لا يعني أن الهواء غير قائم ولا يؤدي وظائفه المعتادة في حياتنا. فمثل هذه الصورة المجازية تنطبق كثيراً على مجتمعاتنا، إذ إن حجم الذين يشتبكون مع السياسة، ونسمع صوت تطاحنهم، يُظهر أنهم قلة قياساً إلى عدد من لا يعيرونها أي اهتمام، أو أولئك الذين يقتربون منها على فترات متقطعة، أو يكادون يمسكون بها، على رغم أن كثيرين منهم يدركون أنها تمس كل شيء وكل أمر في حياتهم، كبر أم صغر. وحتى هؤلاء إن تهامسوا بكلام في السياسة فإن أصواتهم قد تذهب سدًى، وتضيع في الفراغ الهائل بينهم وبين الجالسين على كراسي الحكم، وقد لا يتمكن ممثلوهم في المجالس النيابية والمنصتون إليهم في الإعلام المرئي والمسموع والمقروء من إيصال صوتهم في كل وقت وحين. وربما ساهمت وسائل التواصل الاجتماعي في بعض المجتمعات من زاوية اعتبارها «تكنولوجيا التحرر» في انخراط كثيرين في أتون الجدل والنقاش السياسي، ولكن هذا لا يزيل الصمت بقدر ما يكرسه، فالجالس خلف حاسوبه، أو الناظر في شاشة هاتفه، لا نكاد نسمع سوى نبضات قلبه، ونقرات أصابعه على لوحة المفاتيح، وما يكتبه أو يقوله، لا يذهب بالضرورة إلى الفضاء العام، وقد لا يراه أو يسمعه أو يقرؤه أو يتفاعل معه سوى عدد يعد على أصابع اليد في إطار «الأسرة الافتراضية» و«الصحاب الافتراضيين». ربما وفرت مواقع التواصل الاجتماعي فرصة للحكومات كي تعرف الطريقة والمضمون الذي تتحدث به الشعوب في السياسة، أكثر مما كانت توفره تقارير المخبرين والعسس واستطلاعات الرأي التي تجرى على عينات ضيقة، ولكن تظل هناك قطاعات عريضة من الجمهور، أو المحكومين، غير منخرطة على هذه المواقع، أو لا تستخدمها البتة في التعبير عن المسائل السياسية، بل يعتبر هؤلاء أن تسييسها هو انحراف بها عن الهدف الذي انطلقت من أجله وهو مقاومة الفردانية والاغتراب، وتعويض انحسار الألفة والتماسك الاجتماعي في بعض المجتمعات الغربية. وهنا يثار تساؤل: كيف يمكن التعامل مع الصمت باعتباره موقفاً سياسياً، إن كنا لا نعرف أساساً أسبابه، أو ما إذا كان السكوت ذا مغزى سياسي من عدمه؟ في الحقيقة تمدنا تجارب بعض الشعوب بالكثير من الأسباب، وتساعدنا على تفسير مغزى الصمت ومراميه. وفي الغالب الأعم كان صمت الشعوب تعبيراً عن الرضا أو الترقب والأمل أو الضجر أو التأهب أو اليأس أو الهروب، أو للعقاب أو جراء الخوف أو الشك في جدوى الكلام. وكان صمت السلطة راجعاً إلى تفويت بعض المواقف، أو للترفع وكظم الغيظ، أو بسبب عدم امتلاك القدرة على الرد، علاوة على العجز أحياناً، أو التركيز في الأفعال دون الأقوال، أو للإيقاع بالخصم ودفعه إلى الخطأ، أو أخذ الوقت الكافي للتفكير في الانتقام! ومع كل هذه الأسباب هناك ثلاثة أمور أساسية يجب أن توضع في الاعتبار، أولها أن كثيراً من المسائل والقضايا السياسية تدور في أذهاننا ونحن غارقون في صمت مطبق، أو شرود تام، ويتاح للبعض منا أن يعبر فيما بعد عما دار في رأسه، وهناك من لا يتاح لهم هذا، أو لا يرغبون فيه. وثانيها أن الشعوب لا يمكن أن تصاب بـ«السكتة السياسية» التي هي أشبه بـ«السكتة الدماغية» أو الغيبوبة العميقة. وأي حديث في هذا الاتجاه يكون محض مجاز، كأن يتحدث أحد عن موت الشعب أو موت الأمة! فالحد الأدنى من التعبير سواء بالكلمات أو الإشارة أو الإيماءة أو مختلف الرموز يكون موجوداً طيلة الوقت، سواء تم هذا عبر الهمس أو الصخب. أما السبب الثالث فهو أنه حتى في أعماق الصمت السياسي فإن الأفراد والجماعات تعيش في صدى ما وقع من كلام، في صورة استدعاء للماضي واجترار للذكريات، وخاصة بعد الأحدث الكبرى مثل الثورات والانتفاضات والهبّات والحروب، ويتخلل هذا الاجترار شعور بالزهو أو الراحة أو الندم، أو تحيُّن الفرصة للعودة إلى الصخب من جديد.