منذ أن بدأت مأساة مسلمي ميانمار –الروهينجا- ارتفعت علامة استفهام كبيرة حول أسباب تعرّضهم للتهجير والقتل والاغتصاب، لكن هذا السؤال بقي دون جواب. في عام 1941، أي قبل 76 عاماً تشكلت في بانكوك بتايلاند عصبة من ثلاثين عسكرياً بورمياً (الاسم السابق لميانمار حتى عام 1962). قام كل عسكري منهم بجرح أصبعه حتى ينزف دماً. وجرى جمع الدم من الثلاثين عسكرياً في وعاء فضي. وبعد مزجه قام كل واحد منهم بشرب قليل منه. وكوّنوا بذلك عصبة رابطها الدم. تدرّب أفراد العصبة في المدرسة العسكرية اليابانية وحاربوا بريطانيا حتى تحقيق الاستقلال، ثم تولوا قيادة الجيش الذي حمل اسم «تاتمادو»، ومن خلاله استولوا على السلطة المطلقة. واجه الحكم العسكري سلسلة من الانتفاضات المعاكسة، إلا أنها قمعت كلها بالقوة. وقتل الآلاف من المعارضين، وكانت أبرز تلك الانتفاضات حركة 1988 وحركة 2007، وقد قامت بها جماعات من «البامار» الذين يشكلون الأكثرية الكبيرة من السكان. ومن أجل إحكام قبضة «التاتمادو» على السلطة، قام الجيش بتهجير الملايين من الأقليات من مناطقهم بالقوة العسكرية ومن بينهم الروهينجا، ذلك أن هذه المناطق الجبلية تزخر بثروات طبيعية غنية وخاصة بالأحجار الكريمة الملونة (الجاد) إضافة إلى الأخشاب. وتحت غطاء التطهير العرقي عمدت هذه الأقليات إلى التسلح دفاعاً عن نفسها. وتحول سلاح الدفاع عن النفس إلى سلاح للتهريب وخاصة المخدرات مع الصين. دخل العسكريون في هذه العمليات التي حققت لهم عوائد بمليارات الدولارات، إذ إن عمليات التهريب كانت تتم عبر المرافئ والطرق التي يشرفون عليها بأنفسهم، ويفسر استمرار تدفق الثروات من جراء عمليات التهريب أسباب تمسك الجيش بالسلطة الفعلية حتى اليوم، فتهريب الأحجار الكريمة النادرة وحدها من «الجاد» يشكل مصدراً لعشرات المليارات من الدولارات سنوياً. استمر الحكم العسكري لمدة تزيد على نصف قرن، كانت ميانمار خلالها دولة منعزلة عن العالم، يمارس الجيش فيها سلطة مطلقة أدت إلى إغلاق الجامعات، وزج الآلاف في السجون دون محاكمة وحتى دون أي تهمة. وقد قضت الرئيسة الحالية التي كانت تقود معارضة سلمية، خمسة عشر عاماً من عمرها في الإقامة الجبرية، ومن أجل ذلك منحتها مؤسسة نوبل جائزة السلام عام 1991. لم يشكل العسكريون حزباً أو حركة سياسية، ولكنهم جعلوا من الجيش (تاتماندو) المؤسسة الوحيدة في الدولة. فكل المدارس والمستشفيات، وحتى المحاكم والأعمال كانت تابعة للجيش ومنبثقة عنه، وتعمل بإشرافه. كانت «بورما» واحدة من أغنى دول شرق آسيا، ولكن بعد ستة عقود من الحكم العسكري المطلق أصبحت «ميانمار» من أفقر دول المنطقة، وتحت ضغط هذا التحول اضطر الجيش في عام 2010 إلى الانفتاح على العالم طالباً المساعدات الخارجية تجنباً لوقوع مجاعة عامة. أقرّ هذا الانفتاح دستور جديد للدولة وضعه العسكريون أنفسهم بما يحفظ مصالحهم وسلطاتهم من جهة، ويحول دون مساءلتهم حول ما ارتكبوه من فظائع في العقود الماضية، ورغم أنهم سمحوا بانتخاب سجينتهم السابقة «أونج سان سوكي» رئيسة للدولة، فإنهم لم يرفعوا مظلتهم عنها. ولقد تمكنوا بسهولة من ليّ ذراعها عندما تعرضت لضغوط خارجية بهدف احترام حقوق أقلية الروهينجا من المسلمين. قام الجيش بارتكاب مجزرة التطهير العرقي ضد الروهينجا أملاً منه باستعادة شعبيته المتراجعة لدى الأكثرية من «البامار» الذين يعانون من الفقر والحرمان. فقد اعتقد القادة العسكريون أنهم بصناعة «عدو» إسلامي يستطيعون توحيد «البامار» حول الجيش، تحت شعار الدفاع عن البوذية من خطر التوسع الإسلامي، فكانت المأساة الرهيبة التي لم يعرف التاريخ الحديث مثيلاً لها منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. صحيح أن الروهينجا الذين جرى تهجيرهم من إقليم راخيف يبلغ عددهم نحو مليون إنسان (إحصاءات الأمم المتحدة تقول إن العدد يبلغ 737 ألف شخص)، إلا أن التهجير أصاب جماعات اثنية أخرى، يزيد عدد أفرادها على 340 ألف شخص أيضاً. لقد حاولت هذه الاثنيات من «الكاشين» و«الشان» وغيرهما، دفاعاً عن نفسها، اللجوء إلى التمرد المسلح، وإلى المطالبة بالحكم الذاتي، وهو ما أثار مخاوف «البامار» من أن يحذو الروهينجا حذوهم بالمطالبة بالاستقلال أو على الأقل بالحكم الذاتي. لقد نجح الجيش في استدراج «البامار» الذين يشكلون الأكثرية البوذية إلى السكوت على جريمة التطهير العرقي. ولم يصدر عنهم أي رد فعل معارض ولا حتى أي تعاطف إنساني، بما في ذلك من الرئيسة أونج سان سوكي حاملة جائزة نوبل للسلام!