خلال النصف الأول من عقد التسعينيات، كنت أعمل في أوروبا لصحيفة «ذي وول ستريت جورنال». ولم أكن أهتم إلا بتغطية الأخبار السارّة مثل إعادة توحيد شطري ألمانيا، وتحرير أوروبا الوسطى من النظام الشيوعي، وسقوط الاتحاد السوفييتي، ونهاية عهد التمييز العنصري «الآبارتيد» في جنوب أفريقيا، وتوقيع اتفاقية أوسلو للسلام في الشرق الأوسط. وبعدئذٍ، ومع اقتراب نهاية فترة بقائي هناك، كانت هناك حلقة شاذّة في هذا المسلسل المتفائل تتعلق بخبر تفكك دولة يوغوسلافيا إلى مجموعة من الدويلات. وبعودة سريعة إلى الماضي، نجد أن الحرب التي شهدتها منطقة البلقان هي أخطر حدث في تلك الفترة، لأنها كانت مقدّمة لتطورات سلبية لاحقة، كبروز نزعة الميل للانفصال العرقي، وظهور الشعبوية الاستبدادية، والتراجع عن مفاهيم ومضامين الديمقراطية الليبرالية، وتنامي المشاعر العدائية التي اختصرت السياسة بمفهوم الصديق والعدو، وخوض الصراعات ذات المحصلة الصفريّة. وفي تلك السنوات ذات الأحداث المتداخلة والمتضاربة، كان هناك تحول كامل في صلب «العقلية اللاواعية» unconscious mindset التي تختزن معتقدات ومواقف الناس ومشاعرهم. وبالعودة إلى سنوات التسعينيات أيضاً، سوف نلاحظ أنه كان هناك توسع في الاحتكام لتلك العقلية، ثم جاءت الرأسمالية الديمقراطية بمثابة الهبة التي كان ينتظرها الجميع، وبدأت مظاهر التعصب بالتراجع، وأصبح النمو والنشاط رديفين وحليفين لنا. وانتشرت العقلية المتفائلة بالمستقبل والترحيب بالآخر. وبدا وكأن مبدأ «اربح ودعني أربح» هو الذي كان سائداً في كل مكان. وأما اليوم، وبعد الأزمة المالية وانكماش الطبقة المتوسطة وتنامي الصراعات الحزبية، فلقد أصبحت «عقلية الخوف من الندرة» هي السائدة لأسباب عدة منها أن المصادر والموارد الطبيعية، أصبحت محدودة، وبات العالم كله مكاناً خطيراً، ولم يعد بالإمكان تجنب الصراعات الجماعية. وأصبح المبدأ الذي نتبعه الآن يتلخص بعبارات محددة مثل: «نحن ضدّهم»، و«إذا انتصروا علينا فسوف ينتهي أمرنا». ولهذا السبب، أصبح لسان حال البعض يقول: «دعنا نتمسك بقبيلتنا لأن الغاية تبرر الوسيلة». ويبدو وكأن هذا التحوّل الذي طرأ على العقليات، كان انحرافاً فعلياً عن الفلسفة السائدة، بل هو في واقع الأمر تحوّل من الفلسفة إلى مضادّها. ويكمن تفسير ذلك في أن «نظرية الخوف من الندرة» تشبه الحمض، لأنها تفسد أي نظام عقائدي تلامسه. وعلى سبيل المثال، وفي سنوات حكم الرئيس «الجمهوري» رونالد ريجان (1981 – 1989)، كان الحزب «الجمهوري» معروفاً بالتمسك بـ«عقلية الوفرة» التي تنظر إلى الأمور بتفاؤل. وكانت القضايا الأساسية التي يتداولها «الجمهوريون» تتعلق بأصحاب المشاريع النشيطة والافتخار بالمهمات البطولية التي تنجزها أميركا. وساهمت المقالات الافتتاحية لصحيفة «ذي وول ستريت جورنال» بإبراز مواقف وآراء الفئات المحافظة من الحزب. وكانت نظرة الحزب للقضايا المهمة الأخرى، مثل ملف الهجرة، تتطابق مع مشاعر الثقة التي تعم النفوس بسبب الوفرة السائدة في الأسواق وقوة تأثير الأفكار والتعاليم الأميركية في العالم. والآن، أصبح دونالد ترامب الشخص الذي يقود «الحزب الجمهوري»، وافتتح عهده مرحلة جديدة في الفكر المحافظ. ويمكن القول إن طبيعة السياسات التي تنادي بها «عقلية الخوف من الندرة» التي يتبناها، أصبحت تشكل كارثة بالنسبة لحكم «المحافظين»، فهو مصمم على إعلان الحرب الدائمة ضد القادمين الجدد. وعندما وافق السياسيون «المحافظون» على خوض تلك الحرب معه، فلقد حطموا بذلك معظم الأسس التي يقوم عليها الفكر المحافظ، ومن أهمها: الاحتكام للقانون، والسلوك المالي القويم، والتعاون الدولي، والأخلاقيات السلوكية، وبأن الحكم على البشر يجب أن يقوم على أساس سلوكهم الشخصي وليس على لون بشرتهم. ومن الناحية النظرية، يمكن اعتبار مواقف «الجمهوريين» الرافضة للهجرة قانونية تماماً، إلا أن ترامب فضَّل إضافة النكهة العنصرية إليها، وحتى لو تنكّر «الجمهوريون» لميولهم العنصرية إلا أنها تبقى كامنة في قرارة أنفسهم. وهم الذين تبنوا أفكاراً تفوح منها رائحة الكراهية والتعصب الأعمى. وحقيقة الأمر هي أن «عقلية الخوف من الندرة» وما يترتب عليها من الميل للحرب وخلق العداء، لا تنسجم مع العقائد السياسية المتحضرة. وتحت تأثير هذه العقلية، ابتعد الفكر الليبرالي عن كونه عقيدة تعترف بحقوق الفرد إلى فكرة تؤيد الانفصال الطبقي والتنابذ الفكري. وكل هذا الذي يحدث يمكن التعايش معه لو أن هذه العقلية السلبية يمكن أن تنتهي خلال سنوات قليلة، ولكن يبدو أنها باقية، وخاصة لأن الظروف التي تؤدي إلى الندرة تزداد سوءاً، ثم إن «عقلية الخوف من الندرة» بحد ذاتها تتناقض مع كل التعاليم الفلسفية التي عرفها العالم على مدى القرون. ولا شك أن الليبراليين والمحافظين سوف يشعرون بالحاجة للتخلي عنها، وسوف يدركون أيضاً أن الوقت قد حان لتبني أفكار أخرى. *محلل سياسي أميركي _ _ _ _ _ _ ينشر بترتيب خاص مع خدمة «نيويورك تايمز»