ليس بجديد ذلك الصراع الذي نشهده في حياتنا السياسية العربية المعاصرة حول توصيف ما جرى في السنوات الأخيرة، هل هو «ثورات» أم «مؤامرات» أم نمط من «الفوضى المدمرة»، وهي مسألة يجب التعامل معها بوعي وعمق، إذ إن من وجهة نظر السياسة الرمزية فإن القوى الإنسانية لا تعمل بالضرورة من أجل الخير في حد ذاته، ولا من أجل الشر كذلك، لأن الفعل الاجتماعي والسياسي تتحدد قيمته، خيراً كان أو شراً، من منظور من يعبر عنه، والذي يأتي تعبيره ناطقاً بانحيازاته التي تخلقها مصالحه وأفكاره أو حتى استجابته للضغوط التي تمارس عليه. ولعل مصطلح «الحروب الصليبية»، هو من بين الاصطلاحات الأشهر في التاريخ الإنساني الذي شهد صوراً متناقضة مشبعة بالمجاز في التعامل معه بين الفرقاء المتحاربين، ومن أعقبهم في الشرق والغرب حتى الآن، وهنا يقول المؤرخ قاسم عبده قاسم: «ربما لم يعرف التاريخ الإنساني ظاهرة تاريخية حملت مصطلحاً مناقضاً لحقيقتها مثل الحركة الصليبية. هذا المصطلح المضلل المربك كان نتاج عدد من التطورات التاريخية والمفارقات المدهشة في التاريخ الأوروبي وفي التاريخ العربي على حد سواء». فالصليبيون كان يصفون حربهم الطويلة في القرون الوسطى على أنها «مقدسة»، وكانوا يطلقون عليها صفات أخرى انداحت في الحديث الشفهي والثرثرة والمخيلة الجمعية الأوروبية في تلك الآونة، مثل «الحملة الحربية» و«الحج» و«الرحلة إلى الأرض المقدسة» و«حجاج بيت المقدس»، التي كانت تعني وقتها «الرحلة البحرية الضرورية للوصول إلى الأرض المقدسة، الأمر الذي جعلها تلقى ذيوعاً كبيراً في أوساط العموم لانطوائها على قيمة رمزية وإيحائية كبيرة، وتجعل الناس يقبلون عليها بشهية مفتوحة، إما بإرسال مقاتلين أو تقديم مساهمات مالية من الأعشار والصدقات والمبالغ المدفوعة على سبيل التوبة أو على شكل ميرات بوصية. في المقابل كان أهل الشرق يتعاملون مع هذه الحملات على أنها حرب استعمارية تلبس لبوساً دينياً، وكانوا يطلقون عليها"حرب الفرنجة"، وينظرون إليها على أنها صدام بين الشرق والغرب. ويدرك بعضهم أن المصطلح يحمل تناقضاً شديداً في دلالته اللغوية وحقيقته التاريخية، عبر إضفاء طابع من القسوة والوحشية والتدين العاطفي الذي يشوبه التعصب على "الصليب" رغم أن المسيحية لا تقر بهذا، وهي مسألة كان يتفهمها مسيحيو الشرق. وهناك صورة صارخة لصراع الصور صاحب "الثورة العرابية"، فأعداؤها أطلقوا عليها اسم "هوجة" ليجعلوا منها حركة فوضوية مدمرة غير محسوبة، وألصقوا بها تهمة التسبب في احتلال مصر من قبل الإنجليز عام 1882، لكن لم يلبث التاريخ أن أعاد لها اعتبارها، معدداً مناقبها، ومتجاوزاً النهاية المأساوية التي حلت بقادتها، الذين تم نفيهم إلى جزيرة سيلان، بعد تخفيف حكم الإعدام عنهم، ثم عودة عرابي التي صاحبتها عاطفة جياشة من قبل الجماهير، لكنها سرعان ما فترت، لاسيما في ظل الهجوم الشديد الذي تعرض له من قبل الحزب الوطني الذي أسسه مصطفى كامل، مستغلاً الاسترحام الذي قدمه عرابي للإنجليز كي يتركوه يعود إلى مصر، وسعيه لدى ملك بريطانيا والخديوي كي يرد له أملاكه، ويعيد إليه حقوقه المدنية، ورفع معاشه، دون أن يستجيب أيهما له. ومن ضمن الأمثلة التي يمكن أن نسوقها في هذا المضمار أن الحركة الساعية إلى تحرير الرقيق في الولايات المتحدة الأميركية ينظر إليها في زماننا الراهن على أنها قوة لازمة لمناهضة نظام اجتماعي وسياسي غاية في السوء، يتقبل العبودية، ويبررها، وينتفع منها، لكن في زمان حدوثها كان هناك من يتعامل معها على أنها حركة هدامة، تهدد أسس المجتمع المدني الأميركي. وكان تنفيذ عقوبة الإعدام من دون محاكمة أمراً محل إدانة شديدة في الجنوب، ولكن كثيراً من هذه الأحكام كان مسوغاً بدعوى أنه عقاب لسلوك مضاد للمجتمع من قبل السود. هذه حالات للصور المتناقضة، والإدراكات المتعاكسة، التي يمكن أن نجد لها تجلياً في الحياة الاجتماعية في الذين يطالبون بقتل الأطباء الذين يجرون عمليات الإجهاض، لأنهم يقتلون أرواحاً بريئة بلا ضمير، وبذا يرتكبون جرائم قاسية، بينما هناك من يرى في فعلهم هذا عملا نبيلا يتمثل في صيانة حقوق أطفال عاجزين عن حماية أنفسهم من حياة قاسية تنتظرهم.