زرتُ بصفتي محامياً أحد المتهمين في قضية متاجرة بالمخدرات في محبسه لأستمع إلى روايته حول يوم القبض عليه، وبعد أن سرد لي الرجل قصته التي جاءت متوافقة مع محضر ضبطه، خبط جبهته بيده وقال: «لقد أخطأتُ وضاع مستقبلي! فقد تخاذلتُ في اللحظة الأخيرة واحتفظتُ بلفافة الهيروين في يدي ولم ألقها بعيداً عني قبل تفتيشي». ولأنني كنت أتوقع أنه سيبدي الندم أو ينكر التهمة أو يشكك في إجراءات القبض عليه، فقد أثار كلامه حفيظتي، وقلت له إن الخطأ الذي أوقعه في يد العدالة كان دخوله إلى عالم المخدرات مدفوعاً بالطمع وموت الضمير، وليس عدم إلقاء لفافة الهيروين بعيداً. أطرق الرجل ثم قال بصوت مبحوح بأنه نادم الآن، وأنه يقضِّي وقته في إعادة شريط أحداث اليوم الأخير، بحثاً عن الدقيقة التي أخطأ فيها وتسببّت في إنهاء عملياته، ثم اهتاج وأخذ يضرب رأسه في قضبان الحديد، وراح زوّار بقية المحبوسين يتجمهرون ويسألونني عن سبب هياج الرجل الذي اقتيد إلى الداخل وهو لا يزال يصيح ويصرخ. لم أجد مفرّاً من أن أحكي لهم الحكاية، وفوجئت بهم يوافقون تاجر المخدرات في تصوّره للأمر، وقالوا لي إنه سيقضي بقية عمره في السجن بسبب رعونته وعدم أخذه الاحتياطات اللازمة أثناء محاولته بيع المخدر، وأنه لو كان حذراً، ولو كان قد احتاط للأمر أثناء تسلّم المبلغ المالي وتسليم المادة الممنوعة، لكان الآن حراً طليقاً كالعصافير. حاولت أن أشرح لهم بأن الرجل لم ينته إلى هذا المكان بسبب الخطأ الأخير، بل بسبب الخطأ الكبير الذي وقع فيه حين تاجرَ بالمخدرات، وأن هذا الجزاء الذي يستحقه لم يكن بسبب اللفافة التي بقيت في يده، وإنما بسبب اللفائف والأكياس التي خرجت من يده. وبطبيعة الحال قصة تاجر المخدرات خيالية، لكنها تشبه قصة بعض المحللين السياسيين حين يؤكدون أن سقوط النظام، أو احتلال البلد، أو اندلاع الحرب الأهلية فيه، أو أي كارثة سياسية تحل ببلد ما، ما كانت لتحدث لو اتخذ النظام الإجراء أو القرار الأخير الذي كان يفترض أن يتخذه لكنه، للأسف، لم يفعل. ولو كانت تلك التحليلات تموت على الشاشة التي قيلت عليها، أو على الأوراق التي كتبت فيها، لما كانت ثمة مشكلة، لكن هذه التحليلات تعامل كأنها عنوان للحقيقة، ويُستشهد بها، وتبنى عليها النظريات، وتذهب للكتب والمذكرات، وتكون جزءاً لا يتجزأ من التأريخ لتلك المرحلة، وتعيد الشعوب إنتاج الأنظمة الفاشلة، وتتشكّل لدى الناس قناعة بأن المصير الذي انتهى إليه تاجر المخدرات، كان بسبب عدم إلقائه لفافة الهيروين بعيداً عنه. وهذه‏? ?التحليلات? ?تفتح? ?عيون? ?الدول? ?الفاشلة? ?على? ?الخطأ? ?الأخير? ?الذي? ?يعتقد? ?المحللون? ?أنه? ?هو? ?الذي? ?أدى? ?إلى? ?فشل? ?أو? ?تمزق? ?أو? ?احتلال? ?دول? ?ما، ?وبدلاً? ?من? ?أن? ?تحاول? ?تلك? ?الدول? ?إصلاح? ?ما? ?يمكن? ?إصلاحه? ?لئلا? ?تلقى? ?مصير? ?تلك? ?الدولة، ?فإنها? ?لا? ?تفعل? ?أي? ?شيء? ?سوى? ?ترتيب? ?الأوضاع? ?بطريقة? ?تضمن? ?معها? ?ألا? ?ترتكب? ?الخطأ? ?الأخير، ?لتضمن? ?مواصلة? ?ارتكاب? ?الخطأ? ?الكبير. --------- *كاتب إماراتي