حين يستدعي المدافعون عن الديمقراطية «دولة المدينة» لدى الأغريق الأقدمين كنقطة انطلاق قوية في مسيرة البشرية نحو «حكم الشعب للشعب»، أو تمثيل عموم الناس في الحكم، فإنهم من دون شك يرسمون صورة براقة، في الغالب الأعم، تختلط فيها الحقيقة بالمجاز، معتمدين على أن معظم المثل السياسية العليا الحديثة، كالعدالة والحرية والحكومة الدستورية واحترام القانون، قد بدأت، أو على الأقل بدأ تحديد مدلولها، بتأمل فلاسفة الإغريق نظم دولة المدينة التي كانت تحت أنظارهم، لكن التعامل مع ما جرى في أثينا على أنه نوع من الديمقراطية المباشرة، بمعنى الحكم بواسطة الشعب كله، خرافة سياسية أكثر منها نظاماً من نظم الحكم. فهذا الاستدعاء يأتي في السجالات السياسية الحالية عاماً ومجملاً وغائماً وبعيداً عن التفاصيل الدقيقة، الفكرية منها والقانونية والإجرائية، وكلها تبين أن المسألة لم تكن بهذه الروعة التي يتم تصويرها الآن، أو حتى التي حاول زعيم الديمقراطية الأثينية «بركليس» أن يصورها، في خطبة الرثاء الشهيرة لشهداء المدينة بعد هزيمتها المنكرة من أسبرطة التي كان يحكمها نظام عسكري، وهي المرة الوحيدة في التاريخ التي انهزم فيه جيش دولة ديمقراطية من نظيره المنتمي إلى دولة مستبدة. فقد توجه بركليس إلى أثينا، مخاطباً إياها وكأنها فتاة غاية في الحسن والجمال، وقال لسامعيه: «أناشدكم أن تسلطوا أنظاركم يوماً تلو يوم على عظمة أثينا حتى تفيض قلوبكم بحبها، وإن أخذتم يوماً بمجدها وعظمتها، فاذكروا رجالاً عرفوا واجبهم، وأقاموا بشجاعتهم صرح هذه الإمبراطورية، وكانوا إذا ما جد الجد لا يخامرهم إلا شعورهم بخوف العار وإباء الضيم، وإذا ما قدر لهم الفشل أبوا أن تفقد بلادهم شرفها أو مجدها، فجاؤوا لها راضين بأرواحهم كأعز قربان يقدمونه في يوم عيدها». فديمقراطية أثينا كانت محل نقد لاذع من أحد الارستقراطيين في كتيب، نسب خطأ إلى زينوفون، رأى فيه أن الدستور الأثيني هو أداة ديمقراطية ممتازة، وهو في الوقت نفسه صورة صادقة للحكم شديد الانحراف، حيث إنها تعكس مصالح القابضين على تجارة ما وراء البحار، وتكون أحيانا حيلة لابتزاز الأغنياء لصالح الفقراء، أو وسيلة لتنفيع ستة آلاف رجل من المحلفين يشكلون المحاكم الشعبية. لكن هذا النقد، الذي وصل إلى حد الغبن من جعل الرقيق يرفعون رؤوسهم قليلاً، لم يؤثر على الصورة المتخيلة لأثنيا القديمة، بقدر ما زادها بهاء، مع تقدم البشر نحو المساواة والحرية. ولدى العرب والمسلمين نموذج آخر لـ«دولة المدينة»، التي يقصد بها صيغة التعامل وإدارة المجتمع التي قامت في يثرب، بعد أن هاجر إليها الرسول محمد صلى الله عليخ وسلم، وانطلقت منها «الإمبراطورية الإسلامية» بعد انتقاله إلى جوار ربه. فالنازعون إلى توظيف الإسلام في تحصيل السلطة السياسية لطالما يعودون إلى هذه التجربة، متخذين إياها نقطة انطلاق، وربما تكئة لتبرير الانغماس في السياسة، حتى لو تحول الدين معهم إلى أيديولوجيا، وربما يكثر هؤلاء من استعارة ما قاله مونتجمري واط من أن الرسول محمد قد«مارس طيلة حياته وظائف النبي والمشرع، والقائد الديني وكبير القضاة، وقائد الجيش، ورئيس الدولة المدني، في دور واحد»، مع أن هناك من يفند هذا تماماً مستنداً، ليس إلى الروايات التاريخية السياسية المعارضة للتحريف والتحوير، وفق المصالح والأهواء، إنما إلى القرآن الكريم، وهو الكتاب المؤسس للإسلام، الذي لم يخاطب الرسول أبداً بوصفه ملكاً، إنما بشر ونبي ورسول، أو إلى اللحظة الأخيرة في حياة النبي التي أمر فيها صاحبه أبا بكر أن يصلي بالناس، وليس أن يأتي إليه ليتسلم أختام وأوراق وأسرار حكم، بما يؤكد أن النبي أراد أن يؤكد أن ما جاء به«دعوة» وليست «دولة»، وأن ما كان ينفيه عمه أبو طالب من كلام أبي سفيان حين كان يقول له: «إن ملك ابن أخيك» هو الرسالة الحقيقية للإسلام، وهي نبوة وليست مُلكاً، إنما حوله إلى هذا ما كان لديهم مشروع سياسي يقوم على التوسع باسم الدين، وهو يتجدد الآن مع أطروحات الجماعات والتنظيمات الإسلامية التي توظف الدين في تحصيل السلطة السياسية والثروة، وتستعير«دولة المدينة» في جزيرة العرب، وليس في بلاد الإغريق، لتكون نقطة الانطلاق والتبرير، مع أن هذه الاستعارة قد تكون منحولة أساساً، إذ ليس هناك كان ما يمنع في ظل تأثير الإرث الفكري الإغريقي على فقهاء وفلاسفة ومفسري المسلمين أن يكون اصطلاح«دولة المدينة»، هو أحد مظاهر هذا التأثير.