يطاردنا الماضي بتنوعاته المختلفة في الواقع بشكل كامل بعد محاولة قتل ضابط الاستخبارات الروسي المزدوج السابق سيرجي سكريبال وابنته يوليا. وكي نفهم ما يجري بشكل أفضل علينا أن نتابع سلسلة «بابل برلين» التلفزيونية، وهي إن إنتاج ألماني ضخم يتناول برلين في فترة جمهورية فايمار. فقد كانت الجالية الروسية كبيرة في برلين في ذاك الوقت، كما هو الحال اليوم. وكان حي تشارلوتنبورج الذي أعيش فيه الآن يطلق عليه في عشرينيات القرن الماضي تشارلوتنجراد بسبب كثرة الروس فيه. وفي باريس أيضا، خلال العشرينيات والثلاثينيات، اخترقت الاستخبارات السوفييتية الجالية الكبيرة للغاية من الروس في المدينة. وتوجت الاستخبارات الروسية عملها هناك بخطف الجنرالين الكسندر كوتيبوف ويفيجيني ميلر، القائدين المتعاقبين للاتحاد العسكري الروسي العام، وهما من فلول قيادة الجيش الأبيض المعارض للبلاشفة في الحرب الأهلية الروسية. وكتبت البريطانية فانورا بينيت التي طالما خلبت لبها الهجرة الروسية الأولى تقول: «كانت جالية المغتربين الروس تملؤها الشكوك وعدم الثقة. كان من المستحيل معرفة من في صفك ومن يتقاضى أموالا من العملاء السوفييت السريين من جهاز (تشيكا) ثم جهاز (إن. كي. في. دي) ثم بعد ذلك جهاز (كي. جي. بي)». صحيح أن برلين وباريس كان بهما أكبر تركز للروس في عشرينيات القرن الماضي، لكن لندن كانت بها أيضاً جالية كبيرة من المهاجرين الروس. والآن أصبحت لندن في صدارة الهجرة الجديدة حيث تشير أكثر التقديرات تحفظاً إلى وجود نحو 150 ألف روسي في لندن. وفي السنوات بين الحربين العالميتين الأولى والثانية في القرن العشرين، كان الكريملين يشعر فيما يبدو بأنه يلعب في حلبة الوطن هناك. فقد أرادت حكومة ستالين منع المهاجرين البارزين من الانضمام إلى النازي والآن تريد حكومة بوتين أن تضمن ألا يحصل الخصوم الغربيون إلا على أقل قدر ممكن من المساعدة من المعارضة الروسية. وأثناء الفترة الفاصلة بين الحربين، حاولت روسيا اجتذاب المهاجرين بالوعود المعسولة للصفح عنهم. وبالمثل، في وقت متأخر من العام الماضي، زار رجل الأعمال الروسي بوريس تيتوف لندن وعاد بقائمة بأسماء مستثمرين روس يريدون العودة إلى روسيا. والشهر الماضي، عاد أول هؤلاء وهو اندريه كاكوفكين فاعتقل على الفور. وكما كان الحال في برلين وباريس في عشرينيات وبداية ثلاثينيات القرن الماضي، هناك حاليا كل ألوان الطيف في خلفيات وآراء جالية المهاجرين الروس. فقد دعا أندرية سيديلنيكوف، مؤسس حركة «تحدث بصوت أعلى» المهاجرة التي تمثل المعارضة الصريحة للغاية للرئيس فلاديمير بوتين، السلطات البريطانية لطرد الروس الذين «على علاقة واضحة بالكرملين». وكتب سيديلنيكوف على فيسبوك يقول: «حان وقت كشف كل طائفة (كي. جي. بي) في بريطانيا العظمى. إنهم يتصرفون كما لو أن هذا وطنهم». ولأن المشهد الروسي متعدد الأوجه ومختلط المشارب بطبيعته، فهناك شكوك واسعة النطاق مثل تلك التي وصفها بينيت لباريس في عشرينيات القرن الماضي، وهناك قصص الريبة في مراقبة عملاء روس للمعارضين. وإذا لم تكن كل قصص الماضي تلك كافية، فهناك غاز الأعصاب الذي اُستخدم في محاولة اغتيال سكريبال، وفقا لما تصر عليه رئيس الوزراء البريطانية تريزا ماي وتحمّل الدولة الروسية مسؤوليته. فقد تم تطوير غاز الأعصاب في سبعينيات القرن الماضي في الاتحاد السوفييتي من مبيد حشري. ولم تعترف روسيا قط بتطوير أو امتلاك هذا السلاح. وكشف فيل ميرزياوف، وهو كيمائي عمل في البرنامج شديد السرية لإنتاج الغاز، عن الجهود الروسية في هذا الصدد في بداية تسعينيات القرن الماضي. وحاول جهاز الاستخبارات الروسي (إف. إس. بي) أن يزج بميرزيانوف في السجن لكشفه أسرار الدولة، لكن هذا حدث في البداية الفوضوية للحقبة ما بعد السوفييتية وبالتالي أسقط المدعي الروسي العام الاتهامات. ويعيش الكيميائي المتقاعد منذ فترة طويلة في الولايات المتحدة. ويتضمن كتابه، وهو بعنوان «أسرار الدولة»، ملحقا من الوثائق بشأن برنامج الأسلحة الكيماوية السوفييتية وشرحا للتركيبة الكيماوية لغاز الأعصاب. وتشير مهاجمة سكريبال إلى أن قواعد لعبة التجسس قد تغيرت عن السابق. لكن الواقع أن إعادة بوتين لهيكلة الاتحاد السوفييتي ما بعد حداثية تماما. فهي تستمد بعض الروافد من صراع روسيا السوفييتية الأساسي من أجل الحصول على موقع في العالم ومن قمة سطوتها في سبعينيات القرن الماضي. وتجمع بين مناهج عمرها 100 عام وبين الأسلحة الحديثة. وتخلط بين رغبة السلطات السوفييتية في بداية الأمر إلى إبعاد المعارضين والخونة من روسيا ثم محاولة التخلص منهم في المكان الذي يستقرون فيه من خلال المراقبة ورسائل التخويف كما كان يفعل ستالين. ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»