نشر السير «تيموثي بيرنز لي»، صاحب الفضل في ابتكار الإنترنت، مجموعة من التغريدات يوم الخميس الماضي، مطمئناً مستخدمي الشبكة الدولية للمعلومات أن بوسعهم استعادة السيطرة على بياناتهم وعلى مستقبل الشبكة، بعد فضائح «كامبريدج أناليتكا» و«فيسبوك». و«بيرنز لي» محق، لكن ليس بالضرورة أن يتم هذا بالطريقة التي يتخيلها. فقد كتب «بيرنز لي» يقول: «ما الذي يستطيع أن يفعله مستخدم الشبكة؟ شارك واعتن ببياناتك. إنها تخصك. إذا أنفق كل شخص قدراً قليلاً من الزمن الذي ينفقه في استخدام الشبكة للدفاع عن الشبكة، أعتقد أننا سنكون بحال جيدة. وعليكم أن تخبروا الشركات وممثلي حكوماتكم بأن بياناتكم والشبكة.. كل ذلك مهم». إنني أتفهم غضبه لما حدث لاختراعه، وأحسده على تفاؤله بشأن فعالية المستخدم وفرض اللوائح. وكلاهما بالطبع مفيد لمواجهة الغزو الكاسح للخصوصية الذي نعاني منه جميعاً دون أن ندري خلال السنوات القليلة الماضية. لكن حتى إذا أدركنا هذا الغزو، فليس أمامنا الكثير مما نستطيع فعله. صحيح أن المرء قد يذهب إلى قائمة الضبط في «فيسبوك» ويغلق كل إمكانية لاستهدافه بالإعلانات القائمة على أساس البيانات، ويستطيع فعل الشيء نفسه على «تويتر»، كما يستطيع حذف كل نشاطه السابق من حسابه على جوجل. لكن المرء لا يستطيع أن يعطل تبادل البيانات المتواصل الذي يحدث على كل موقع يستخدم الإعلانات المبرمجة. وهذه المواقع تحصل على كل المعلومات عن المتصفح وفي مقدمتها تاريخه في التصفح والبحث وجعلها متاحة للمعلنين أو على الأقل للخوارزميات التي تمثلها، حتى يستطيعوا جذب انتباهك بإعلاناتهم. وليس هناك وسيلة سهلة لتطهير الملفات المفصلة التي جمعت عن كل واحد منا من وسطاء البيانات، وهي الشركات التي تجمع معلومات لإعادة بيعها. ومعظم البرامج التطبيقية التي نستخدمها على الهواتف المحمولة تجمع وتتبادل بياناتنا. فهل من الممكن حقاً أن نستعيد السيطرة على خصوصياتنا؟ القول أسهل من الفعل، لأن بياناتنا لم تعد ملكنا، وهي تُستخدم بطريقة قد نرفضها إذا تمت استشارتنا. واختراع «بيرنز لي» نسفه اعتقاد عبّر عنه «مارك زوكربيرج» كبير المديرين التنفيذيين لشركة «فيسبوك» في مقابلة له مؤخراً مع «نيويورك تايمز» حين قال: «رسالتنا هي بناء مجتمع لكل شخص في العالم وجعل العالم أكثر قرباً. والجزء المهم حقاً في هذا هو تقديم خدمة يستطيع الناس تحمل كلفتها. لأنه بخلاف المليار الأول من الناس، لا يستطيع كثيرون منهم دفع الكثير. لذا، فإن مجانية الخدمة ووجود نموذج اقتصادي مدعوم بالإعلانات مهم ومناسب حقاً». لقد امتلأت الشبكة منذ أيامها الأولى بما يمكن التقاطه مجاناً وتعلَّم المستثمرون أن يقدموا هذا بطريقة معيارية. فقد عرضوا على المستخدمين فكرة جمع البيانات بطريقة خاطئة، زاعمين أنها لا يمكن أن تضايق شخصاً عاقلاً، وباعوا للمعلنين هذه البيانات على أساس أن جمع البيانات يمكن ترجمته إلى استهداف أشد دقة بالإعلانات مقارنة بوسائل الإعلام التقليدية. وهذا ليس نموذج «فيسبوك» فحسب، بل النموذج الذي تتبعه جوجل وتويتر، وحتى الناشرون التقليديون الذين استخدموا الإعلانات المبرمجة في مواقعهم وعلى برامجهم التطبيقية. لكن بصرف النظر عن رأي المرء في هذا، يتعين علينا نحن المستخدمين أن نفهم أن هذا ليس النموذج الوحيد. والآن يشهد العالم أكبر عرض أولي للعملة في التاريخ، وهو عرض برنامج تيليجرام لتبادل الرسائل. وجذب العرض بالفعل 850 مليون دولار والمبلغ يتضاعف. وفكرتها هي أن يتم خلق اقتصاد قائم على سلسلة كتل البيانات داخل جماعة برنامج تيليجرام التي قوامها 170 مليون مستخدم، عن طريق عملة مشفرة تستخدم في نقل القيمة والشراء. وهذا النظام البيئي الذي لم يقم بعد ستكون فيه مساحة للإعلانات أيضاً، لكنها ستكون أقرب إلى الإعلان في وسائل الإعلام التقليدية. وتيليجرام بها قنوات عامة يستطيع ملاكها بيع إعلاناتهم عليها للمعلنين المهتمين بجمهورها. وتيليجرام وملاك القنوات ليسوا مضطرين لجمع أي بيانات شخصية للحصول على المال. وتستطيع تيليجرام العيش على نسبة من التعاملات على نظامها البيئي. ووسائل الإعلام القائمة على المنبر تحتاج فحسب إلى جذب جمهور كبير لمحتوى محدد بشكل أكبر. وتقول تليجرام إنها لا تنقل بيانات المستخدمين إلى أي أحد. وأملي الذي ربما يكون مفرطاً في تفاؤله مثل أمل «بيرنز لي»، هو أن تتفوق نماذج اقتصادية أحدث تحترم الخصوصية، مثل هذا النموذج الذي تستشرفه تيليجرام، على النموذج القديم، على الأقل في مجال مواقع التواصل الاجتماعي. وبرامج تبادل الرسائل تتضافر تلقائياً مع تكنولوجيا التمويل ووسائل الإعلام التي تستهدف جمهوراً بعينه، وكثير منها يمكن أن يكسب المال دون بيع البيانات لمن يدفع أعلى سعر. وهنا يقوم منهج «بيرنز لي» على الضغط الشعبي واللوائح بأفضل دور. فمن العدل أن نسمح لهؤلاء المستخدمين الذين لا يريدون تقديم بياناتهم أو رؤية إعلانات أن يدفعوا رسوم اشتراك، كما يفعلون في موقع سبوتفاي للموسيقا على سبيل المثال، وأن نعطي الآخرين الذين يبيعون بياناتهم نسبة من عائدات الإعلانات التي يتسببون فيها. وإذا رفضت المواقع تقديم هذه الفرص فيتعين أن تجبرهم الجهات التنظيمية على فعل ذلك. ليونيد بيرشديسكي كاتب روسي مقيم في برلين ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»