عَبَر صقر قريش، المطارد من قِبل قريش، القفار والبحار بحثاً عن الأمان في أرض أندلس ذاك الزمان، فاستقبله القساوسة والرهبان مستبشرين به، لما كانوا يسمعون عن الإسلام في جزيرة العرب بين آن وأحيان. ماذا يريد الرهبان ومعهم بقية السكان من هذا الفاتح وليس الغازي، كما تروج في بعض الأدبيات التي تصور الفتوحات العربية والإسلامية للعالم بالغزو والاحتلال والاستعمار، كما هي في هذا العصر، من دون مراعاة للفوارق والاختلافات بين قرون مضت، (... لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ...)، «سورة البقرة: الآية 286»، وأخرى تحاسب تلك القرون وكأنها أحداث اليوم. وجه القساوسة خطابهم لهذا الصقر المنطلق إلى الضفة الأخرى من الكرة الأرضية طالباً اللجوء السياسي والأمان، فإذا به يفاجأ بأن أهل الأندلس هنا يعانون من اضطهاد اليهود واحتلال بلادهم والتسبب في اختلال أنظمتهم ولوائحهم التي تسير دفة الحياة في هذا المكان الذي تحول أهل البلاد إلى مجموعة من «العبيد» تحت سيطرة طغيان اليهود منذ غابر الأزمان. عبَّر القساوسة والرهبان والدهاقنة لصقر قريش عن حقيقة أوضاعهم المزرية تحت سلطان اليهود الظلمة، طالبين من عدالة الإسلام لدى هذا الصقر لكي يحل محل ظلمات تحكّم اليهود في رقابهم، وله الثمن بما شاء إن فعل ذلك وهم الأعوان بحق هذه الصلبان التي يقسمون عليها بأغلظ الأيمان. لقد قدموا لهذا الفارس القرشي عربوناً مغرياً ليس سهلاً على أي رجل رفضه وقدموا له بقولهم، لقد علمنا أنكم تحبون النساء وتعددون الزوجات، لذا فنحن على أتم الاستعداد لدفع بناتنا ونسائنا كدفعة مقدمة من أجل إخراجنا من ربقة الطغيان. وقد يظن ظان، بأن الفارس المغوار سال لعابه لهذا «العربون»، ويحمله الدافع لهذا الفتح العظيم لأجمل ما خلق من البلدان، إلا أنه صقر رفض «حبارى» النصارى ابتداء، وقال بأن وقته أثمن من أن يمضيه في اللهو مع الجواري الحسان، فقام بواجبه من دون أن يؤذي قسيساً ولا راهباً ومن دون أن يهدم ديراً وكنيسة أو معبداً، فقد تحقق النصر بمساعدة حاملي الصلبان وحفظة القرآن على اليهود الذين استباحوا سكان الأندلس في ذاك الوقت الذي امتنع فيه الصقر ذات الفعل بموافقة أهل الأندلس. يقول ابن القيم في سفره العظيم «زاد المعاد في هدي خير العباد «الفتوحات بالقرآن لا بالسيف وكان النبي إذا خطب، أخذ عصاً، فتوكأ عليها وهو على المنبر». وكان الخلفاء الثلاثة بعده يفعلون ذلك، وكان أحياناً يتوكأ على قوس، ولم يحفظ عنه أنه توكأ على سيف، وكثير من الجهلة يظن أنه كان يمسك السيف على المنبر إشارة إلى أن الدين إنما قام بالسيف، وهذا جهل قبيح من وجهين، أحدهما: المحفوظ أن النبي توكأ على عصا وعلى القوس. الثاني: أن الدين قام بالوحي، وأما السيف، فلمحق أهل الضلال والشرك، ومدينة النبي التي كان يخطب فيها إنما فتحت بالقرآن، ولم تفتح بالسيف. هذه رسالة واضحة لكل من يفتري على الإسلام، وكأنه سيّاف جاء لقطع الرقاب كما رأينا في دأب المتطرفين والإرهابيين الذين أحرقوا وأعدموا الأبرياء واتهموا البراء بالكفر والفجور والفسوق، حتى قام العالم بدحرهم وسحقهم لانحرافهم عن جادة الصواب ولو زعموا الدافع باسم الدين الإسلامي الحنيف قال تعالى: (... وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ? فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ...)، «سورة آل عمران: الآية 159»، هذا الأمر لسيد البشر، ومن دونه ليس «شيئاً مذكوراً» لو خالف ذات الأمر. لم يقتل سيد ولد آدم إنساناً بيده ولا بسيفه وعندما شتمه بعضهم وأمر بقتلهم ولو تعلقوا بأستار الكعبة، وجيء بهم إلى ساحة المحاكمة أمام سيد الأنبياء، وقفوا برهة من الزمن ينتظرون أوامر الرسول صلى الله عليه وسلم، فلم يفعل وأشار أحدهم إلى النبي لكي يحرك عينيه فقط لتنفيذ الأمر الذي أصدره بنفسه فأجاب صلى الله عليه وسلم «ما كان لنبي أن يكون له عين خائنة» قال تعالى: (يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ)، «سورة غافر: الآية 19»، فعفى عنهم. نمضي في بعض حارات إسبانيا اليوم القريب وليس أندلس الأمس البعيد وقد مرّ رجل على «كشك» يبيع أشرطة مدمجة وبعد برهة من الزمن عاد أدراجه سائلاً صاحب المحل ما هذا الذي أسمعه وقد اقشعر بدني ولا أفهم ما يقول، فأجاب هذا هو صوت كتابنا المقدس، ولم تمض دقائق مع صاحب المحل حتى أعلن الرجل الإسباني إسلامه من دون أن يدرك من معاني ما سمع شيئاً غير صوت القشعريرة. لقد أثر فيه صوت القرآن وليس سوطه ولا سيفه، لقد ذكر بحث نشره مركز بيو مؤخراً بأنه بحلول عام 2070 سيصبح الإسلام أكبر ديانة في العالم. حيث أكد المركز أن الإسلام هو الديانة الوحيدة في العالم التي تنتشر أسرع من وتيرة نمو سكان العالم، وأوضح المركز الأميركي أن عدد السكان المسلمين سينمو بنسبة 73% بين عامي 2010 و2050، بالمقارنة مع 35% لدى المسيحيين ثاني أسرع ديانة نمواً في العالم. هذه لغة الأرقام لدى المراكز الغربية والتي تقطع لسان كل متطرف أشر يدعي تفخيخ نفسه وقتل المسلمين قبل غيرهم من أجل الإسلام، ولقد فصّل رب العالمين الأمر لنبيه الكريم «إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَ?كِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ...)، «سورة القصص: الآية 56»، لذا فإن كافة البشر بعد ذلك بحكم الآية المطلقة (... فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ...)، «سورة الكهف: الآية 29»، بإرادة حرة تتلقى تعليمات القرآن (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ? قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ...)، «سورة البقرة: الآية 256».