مع القهر الذي يطارد البشر أياً كانوا، في السياسة أو العمل أو حتى في حيواتهم الشخصية، فإن الحقيقة تصبح أحياناً مناطاً للتلاعب، إما لجهل أو وهم أو رغبة أو إرادة لدى من يعتقدون أن ما ينطقون به، أو يتصرفون وفقه، هو الحقيقة. من يمعن النظر فيما يجري في حياتنا يدرك أن ما للمجاز من حظ فيها أكبر بكثير مما للحقائق، ورغم أن بوسعنا أن نتبين سريعاً أوجه الكذب في أي شيء، وليس بمقدورنا الزعم بأن ما نصل إليه هو الحقيقة بعينها، فإن البرهنة على الكذب أيسر من إثبات الحقيقة، كما أن التعامل مع الأول أقل كلفة من الثانية. كما أن الحقيقة نفسها لا تخلو من توزع مغرض على المجاز، فكل من يدافع عنها بملء فيه، ويجتهد قدر استطاعته كي يجعل كلامه مشبعاً بالبلاغة، بما يجعله أكثر تأثيراً في النفوس، ظناً منه أن جرس الكلمات وإيقاع بيانها كفيل وحده بالإقناع. لهذا تتناطح في عالمنا أكاذيب، ليس فيها نصيب من حقيقة سوى ما يمكن إثباته علمياً، أو الدلالة عليه، وهو قليل، في حال يشبه المقارنة السائدة بين العلم والفلسفة، إذ أن ما للعلم أقل بكثير مما للفلسفة، فالأول عبارة عن افتراضات ثبتت صحتها أو تساؤلات تمت الإجابة عليها، بينما الثانية تدور حول الأسئلة التي لا تزال معلقة، وهي الأكثر بالطبع. ومع هذا فإننا لا نزعم أن ما نصل إليه مما توخينا الحذر في اتباع المنهج العلمي هو الحقيقة، التي لا يرقى إليها شك، فتلك تبدو في ظل اختلاط الحجج والأسانيد، وتضارب المصالح والأهواء مجرد افتراض مثالي، وليس بوسع أحد أن يؤمن بها سوى أولئك الذين بوسعهم امتلاك إيمان عميق بأمور لا يقبلون فيها شك أو مساءلة، مثل العقائد الدينية. إن العقل بكل ما امتلك من قدرة على التفكير، ووسائل ومناهج علمية، لم يبرهن لنا، حتى الآن، سوى على الجزء الضئيل مما بوسعنا أن نطلق عليها وصف «الحقيقة»، وأتصور أن الناس سيظلون يتخبطون في الأمور المتشابهة، تتقاذفهم أمواجها التي لا تتوقف دون أن يقفوا على الحقيقة بشكل تام، لاسيما أن هناك من يحاولون طيلة الوقت زعزعة ما يعتقده هؤلاء في إطار التنازع حول الحقيقة، أو بمعنى أدق أشباهها، لاسيما إن انزلق الجدال إلى صراع سياسي، يستبيح كل طرف ما شاء من وسائل صناعة البرهان، حتى لو كانت زائفة في سبيل الدفاع عن وجهة نظره، وكان من بين هؤلاء من يدعي أن الحقيقة معه، وقد يكون مستعداً للكذب وهو يدافع باستماتة عن هذا. هل يعني هذا أن الحقيقة غائبة أو غائمة وليس بمقدورنا الوصول إليها؟ لا، ليس الأمر على هذا النحو، إنما أريد مما سبق أن أبرهن على أن الحقيقة كمعنى وموقف هي نفسها محل نزاع. وقد رأينا كيف وضع كل هذا محل اختبار بعد انطلاق الثورات والانتفاضات العربية، حيث صارت الحقيقة محل ادعاء وتجاذب بين إرادات ورغبات متصارعة، هي في جوهرها مجرد مجازات متناطحة. ورغم محورية المجاز في الفكر العربي، عطفاً على الجدل الذي دار في القرون البعيدة بين المعتزلة والأشاعرة وأهل الأثر حول تأويل النص القرآني، فإن مسألة المجاز لم تلبث أن خمدت لدينا، بينما واصلت نموها في الغرب، متعدية قضايا اللغة وطبيعتها، لتصبح مدخلاً لتفسير الظواهر الاجتماعية والسياسية. لقد سبق أن نبهنا سلامة موسى أن «أعظم المؤسسات في أية أمة هو لغتها لأنها وسيلة تفكيرها، ومستودع تراثها من القيم الاجتماعية والعادات الذهنية»، فإذا كان للغة وظيفة مرجعية تنشغل بصناعة السياق أو المرجع، حقيقياً كان أو متخيلًا، ووظيفة انفعالية أو تعبيرية عن المواقف، ووظيفة محرضة أو إيعازية واتصالية بين المتكلمين، فإن لها أيضاً وظيفة مجازية لا تُمارس في إنتاج الشعر فحسب، بل في مختلف الإنتاجات اللغوية التي ينشئ فيها المتكلم تعادلات بين شكل خطابه اللغوي وفحواه، رامياً إلى خلق تأثيرات جمالية، وهنا يكون للغة دور كبير في صناعة حقائق السياسة وأكاذيبها.