لا تتحرك الدولة الإيرانية من فراغ، ولا تمضي في طريقها مدفوعة برغبة في المشاكسة أو الشغب أو محاولة لفت الانتباه أو تفزيع الآخرين منها، إنما تحكمها استراتيجية، تقوم في بنيتها العامة على ثلاثة تصورات، وخمس أدوات، هي التي تسيطر على خطوطها العريضة، وتحدد التفاصيل أو الخطط والسياسات ومن بعدها الإجراءات والقرارات. والتصورات الثلاثة تلك ذات طبيعة تاريخية وسياسية وعسكرية أو تكتيكية، وهي: 1 - المشروع الفارسي: وهو يضرب بجذور بعيدة في الزمن، إذ أن «الأمة الفارسية» لا تمل من الحنين إلى زمن إمبراطوريتها التي طوتها الأيام، أيام الأباطرة والأكاسرة الذين كان لهم طموح توسعي شديد، سجلته الأعمال المسرحية الإغريقية القديمة، وكذلك ما خطه الفراعنة عن حملة قمبيز، وعلى مستويات أدنى تغلغل الفرس في نسيج الخلافة العباسية، وأقام الصفويون دولة قوية قبل أن يهزمها العثمانيون، فلما قامت الثورة الإيرانية عام 1979 استعمل رجال الدين الذين آل إليهم الحكم مبدأ «تصدير الثورة» في محاولة استعادة المجد الغابر للدولة الإيرانية، بغض النظر عن اختلاف الأيديولوجية أو الإطار. 2 - المجال الحيوي، وهي رؤية سياسية بلغت ذروتها مع ألمانيا النازية، وتقوم على تصور دولة معينة أن ما حولها من دول ليست سوى مجالاً حيوياً لنفوذها ومصالحها ومطامعها، وهو ما تتعامل به إيران مع بعض جيرانها. 3 - الدفاع المتقدم: فإيران تبرر تدخلها في محيطها الإقليمي بأنه دفاع متقدم عن كيان الدولة، في وجه الوجود الأميركي في المنطقة، وصعود التطرف الديني السُني في باكستان وأفغانستان، ونفوذ تركيا الثقافي التقليدي في آسيا الوسطى، وقيام الاستراتيجية الإسرائيلية في الإقليم على إضعاف إيران. وهذه التصورات يتم تنفيذها عبر خمس أدوات، تعمل معا في تكامل واضح من أجل تحقيق الهدف الأساسي الذي تسعى إليه إيران، ويمكن ذكرها على النحو التالي: أ- الوكلاء المنظمون: حيث ارتبطت إيران بعلاقات قوية مع جماعات وتنظيمات وأحزاب في دول عربية وإسلامية، لا تخفي علاقتها القوية بطهران، وفي مطلعها "حزب الله" في لبنان، و"الحوثيون" في اليمن. ب- الفضاء الشيعي، وكان خاملاً إلى حد بعيد، قبل قيام الثورة الإيرانية، لكن تم تنشيطه في ركاب استغلال إيران لأشكال متفاوتة من التمييز التي مورست ضد الشيعة في بعض البلدان العربية، وتهميش مدرسة «النجف» كمرجعية للشيعة العرب، في وقت تصاعدت فيه «مرجعية قم»، كي تقدم نفسها باعتبارها نصيراً للشيعة. ج- توظيف بعض الجماعات والتنظيمات السُنية: فإيران أبدت مرونة سياسية عالية في التعامل مع جماعات سُنية في العالم العربي، فمدت جسور تعاون مع حركة "حماس"، وغازلت جماعة «الإخوان» ونسقت معها في بعض المواقف، علاوة على أوجه الشبه التنظيمية بين هذه الجماعة وبين تنظيمات باطنية وشيعية قديمة في التاريخ، علاوة على اعتراف "الإخوان" وبعض التنظيمات «الجهادية» السُنية بأن الثورة الإيرانية كانت مصدر إلهام لها، وأن تكرارها في دول يعتنق سكانها، أو أغلبهم، المذهب السُني مسألة قابلة للتكرار. ولم تكتف طهران بهذا، بل سمحت لبعض رموز الحركات "الجهادية" بدخول أراضيها بعد انتهاء مهمتها في أفغانستان وقت الصراع ضد الاتحاد السوفييتي، واستمرت تنسق مع بعضهم وتستخدمهم كأوراق ضغط على دول معينة، أو وسيلة لجمع معلومات عن مختلف الجماعات الإرهابية والمتطرفة. كما أن هناك تشابها جزئياً في التكتيكات بين بعض الجماعات المتطرفة سُنية المذهب وبين التصورات الدينية عند الشيعة، فمثلا «حزب التحرير الإسلامي» وهو من الجماعات شديدة العنف، يؤمن بفكرة «التقية» لتبرير خداع خصومه، فيما تتفق جماعات سنية تندرج ضمن ما يسمى «الإسلام السياسي» مع التصور الشيعي في الإيمان بحتمية تاريخية، هي عند هذه الجماعات استعادة الخلافة في النهاية، وعند الشيعة عودة المهدي وقيام الدولة، وهي المسألة التي تم استبدالها بوكالة الإمام أيام الصفوي، ثم ولاية الفقيه أيام الخميني. د- جذب الخطاب الإيراني الثوري بعض التنظيمات اليسارية، وكذلك الأفراد الذين يمضون في هذا الاتجاه، من خلال تأكيده على قضايا الحرمان، أو «حركات المحرومين» والمهمشين، علاوة على مقاومة المشروع الإسرائيلي، مستغلا تراجع الدعم العربي عموما لحركات أو اتجاهات النضال ضد إسرائيل. هـ- الاعتماد على ما يسمى «الهوى الشيعي» أحياناً، إذ إن حب أتباع المذهب السُني لآل البيت، وهي مسألة طبيعية، يتم استغلاله أحياناً من قبل رجال الدين في إيران لدغدغة مشاعر قطاعات عريضة من السُنة بغية خلق حالة تعاطف مع المشروع الإيراني بعد 1979، وهي حالة عبر عنها الخميني نفسه حين قال: «مصر سنية المذهب شيعية الهوى» مستغلاً حب المصريين الجارف لآل البيت، وهو قول يلقى انتقادات شديدة من قبل المؤسسات الدينية المصرية التي ترى فيه محاولة مكشوفة لمغازلة عموم المصريين من قبل الخميني، وهو ما حال دون أن يأتي هذا التوجه أُكله بالنسبة للملالي.