بسرعة كبيرة انعكست التوترات الجيو-سياسية في الشرق الأوسط بين القوى الكبرى والإقليمية على الأوضاع الاقتصادية والمالية في العالم، وبالأخص أداء البورصات والنفط وأسعار الذهب والعملات، بحيث أضحى المتعاملون والمستثمرون يدورون في متاهة ويتخذون قرارات متوترة، كنتيجة طبيعية لتوتر الأجواء السياسية والعسكرية، والتي تنذر بتطورات خطيرة وحروب مدمرة. يحدث ذلك بصورة عفوية وتلقائية، فالبحث عن ملاذات آمنة لرؤوس الأموال تقف على رأس أولويات المستثمرين والمدخرين في مثل هذه الحالات، لذلك رأينا انخفاضات حادة بلغ بعضها 3% تقريباً في العديد من بورصات العالم، بما فيها «وول ستريت» في محاولات من المستثمرين لاستباق الأحداث والتخارج بهدف الحفاظ على ثرواتهم بتسييل الأسهم والاتجاه لبعض الأصول الأكثر استقراراً في زمن الحروب، كالذهب على سبيل المثال. كما شهدت أسعار النفط ارتفاعات ملحوظة لتصل إلى 73 دولاراً للبرميل، ولأول مرة منذ ديسمبر 2014، وهو تطور إيجابي للبلدان المنتجة للنفط سيساهم في زيادة عائداتها وتحسين أوضاعها الاقتصادية والمالية. أما العملات، فقد اتخذت مسارات متناقضة، ففي الوقت الذي ارتفع فيه الطلب على العملات العالمية، كالدولار الأميركي واليورو والجنيه الاسترليني، كعملات مستقرة وقوية، فإن بعض العملات الأخرى، وبالأخص عملات الدول الإقليمية ذات العلاقة المباشرة بتوتر الأوضاع، كـ«التومان» الإيراني والليرة التركية، فقد عانتا من تدهور كبير، فالعملة الإيرانية شهدت شبه انهيار لتنخفض خلال يومين فقط بنسبة 16? برغم محاولات البنك المركزي هناك - الذي لا يملك الكثير من خيارات التدخل لحماية العملة - حيث امتنعت محال الصرافة عن استبدالها بالدولار، ما فاقم من تدهورها، في حين انخفضت الليرة التركية بنسبة 5% خلال الفترة ذاتها. تزامن ذلك مع انخفاضات حادة في بورصات المنطقة، بما فيها البورصات العربية، والتي تقع في مركز الأزمة المتفاقمة بين الدول الكبرى في سوريا بسبب استخدام الأسلحة الكيماوية وتوجيه ضربات عسكرية لمنع التمادي في ذلك ووقف التمركز العسكري الإيراني في سوريا. من الواضح أن الأوضاع مرشحة للمزيد من التأزم، وبالتالي، فإنه يتوقع أن تشهد المؤشرات الاقتصادية المزيد من التدهور في الفترة القادمة، فالضربات العسكرية أو الحرب تعني باختصار تدهوراً في مجال الاستثمار والتجارة الدولية، والتي تزداد سوءاً بسبب الحرب التجارية غير المعلنة بين الولايات المتحدة والصين، والتهديد المستمر لمليشيات «الحوثي» الإيرانية لخطوط الملاحة في مضيق باب المندب والبحر الأحمر، والتي تعمل دول التحالف العربي على حمايته وبقائه مفتوحاً وآمناً أمام التجارة الدولية. مجمل هذه التطورات ستجد لها انعكاسات مؤلمة على المستويات المعيشية للسكان في للعديد من البلدان، وبالأخص إيران، حيث بلغت معدلات التضخم مستويات قياسية بسبب انهيار «التومان»، وتجديد بعض قرارات المقاطعة الاقتصادية من قبل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، مما قد يتسبب في تجدد الانقسامات والتظاهرات المناوئة لنظام الملالي في طهران. وفي الوقت نفسه، ستزداد معاناة الاقتصاد التركي، إذ أنه برغم تحقيقه لمعدلات نمو كبيرة في العام الماضي، إلا أن التدهور المستمر للعملة التركية ومعدلات التضخم العالية ستقلل من أهمية معدلات النمو، خصوصاً وأن التزامات تركيا في المنطقة تتزايد وتكلف خزانة الدولة مبالغ طائلة. أما الاقتصادات العربية فستتحمل أضراراً أقل، وذلك بفضل إمكانية ارتفاع أسعار النفط مع اشتداد توتر الأوضاع، إلا أن البورصات العربية ستتحمل العبء الأكبر من هذه الانعكاسات السلبية، في حين ستبقى العملات عند مستوياتها الحالية متماسكة ومستقرة. وفي ظل عدم الاستقرار في الشرق الأوسط والمؤشرات الخاصة بإمكانية تفاقم الأوضاع باتجاه صراعات عسكرية، فإن خيارات المستثمرين ستكون محدودة، إلا أن اتخاذ القرارات الصحيحة سيساهم في تقليل الخسائر، خصوصاً وأن المضاربين سيعمدون إلى الاستفادة من هذه التطورات من خلال المبالغة في ردود الأفعال لتحقيق مكاسب سريعة وكبيرة.