يمكننا بكل موضوعية أن نؤكد انطلاقاً جديداً للروح العربية الأبية المصممة على وقف الأطماع التوسعية لقوى اليمين الإسرائيلي في القدس وسائر أراضي الضفة الغربية المحتلة، بقدر ما تعمل على كبح جماح أطماع التوسع الإيرانية. حدث انطلاق روح الإباء هذه في اللحظة التي أعلن فيها خادم الحرمين الشريفين قراره بتسمية القمة العربية التاسعة والعشرين المنعقدة في الظهران «قمة القدس»، وتأكيده على أن القضية الفلسطينية هي قضيتنا الأولى، وستظل كذلك حتى حصول الشعب الفلسطيني الشقيق على كل حقوقه المشروعة، وعلى رأسها إقامة دولته المستقلة، وعاصمتها القدس. لقد أدت هذه الكلمات على لسان خادم الحرمين الشريفين إلى وضع القضية الفلسطينية في مقدمة اهتمامات القمة، وهو ما سبق أن توقعته هنا في مقال سابق عندما أطلقت عليها قمة الأمل، خصوصاً أن خادم الحرمين الشريفين أقرن القول بالفعل عندما قدّم مائة وخمسين مليون دولار لدعم الأوقاف الإسلامية في القدس وخمسين مليون دولار أخرى لـ«وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين» (الأونروا). لقد اهتمت الصحف الإسرائيلية بإبراز تصريحات خادم الحرمين الشريفين، والتي تنسف أوهام اليمين الإسرائيلي حول انصراف العرب عن قضية فلسطين نظراً لانشغالهم بمقاومة محاولات إيران التوسعية في الدول العربية ومكافحة الإرهاب. وجاءت المانشيتات الإسرائيلية لتبرز ما أكدته القمة من أن انشغال العرب بصد الأطماع الإيرانية وتصديهم للدعم الإيراني للحوثيين متمثلاً في الصواريخ التي تستخدم في العدوان على المدن السعودية، لا يثنيهم عن احتضان القضية الفلسطينية، ووضعها موضع الصدارة في جهودهم السياسية على الساحتين الإقليمية والدولية. لقد انعكس هذا الموقف من خادم الحرمين الشريفين ورئيس القمة العربية في دورتها الجديدة بشكل إيجابي في البيان الختامي للقادة العرب، حيث أكد البيان من ناحيةٍ الهويةَ العربية للقدس الشرقية المحتلة، في رفض لمحاولات إسرائيل ضمها وتهويدها، وأكد من ناحية ثانية العزيمة الجماعية العربية على الوقوف إلى جانب الشعب الفلسطيني لنيل حقوقه المشروعة. من الواضح من البيان أن خيار السلام الاستراتيجي العربي كما تجسده مبادرة السلام العربية ما زال قائماً، ومن الواضح أيضاً من تصريحات وزير الخارجية السعودي عادل الجبير أن المحاولات من جانب العواصم العربية المؤثرة ما زالت جارية لتصحيح صفقة القرن الأميركية، لتتحول إلى مبادرة سلام متوازنة ومقبولة للطرف العربي. يظهر هذا من قول الجبير بأن العلاقات السعودية الأميركية استراتيجية وقوية، ونحن نسعى إلى سد أي فجوات فيها، فدائماً ما تحتم الصداقة أن ننصح بعضنا بعضاً. إن ذلك التصريح يعزز تصريحاً سابقاً للجبير بعد قرار الرئيس ترامب الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، قال فيه إن هناك حواراً جارياً مع الإدارة الأميركية، وإن هذه الأخيرة تستمع باهتمام إلى آرائنا. وكمراقب، ما زلت أعتقد أن المحاولات السعودية ستنجح ضمن محاولات العواصم العربية المؤثرة الأخرى والعواصم الأوربية التي تعمل جميعاً على تصحيح صفقة القرن. وعلى سبيل التحديد، فإني أعتقد يأن الصياغة النهائية لهذه الصفقة ستعدل الموقف الأميركي ليتماشى مع رؤية «حل الدولتين»، وأيضاً ستعدله بالنسبة للقدس على نحو يجعلها عاصمة للدولتين الإسرائيلية والفلسطينية، بما يتماشى مع قواعد الإنصاف للشعب الفلسطيني. إن ما نرجوه في الأيام المقبلة، هو أن يترجم موقف قمة القدس الأبي في نشاط سياسي عربي فاعل بصورة أكبر على الساحة الدولية يفضي إلى أملنا المنشود في إقامة دولة فلسطينية عاصمتها القدس الشرقية.