في سياق موجة التهديد المتبادلة بين إسرائيل وإيران، حذّر أحد قادة الحرس الثوري الإيراني من عناصر القوة الاستراتيجية غير المسبوقة لبلاده التي أصبحت حاضرة بقوة في شمال البحر الأحمر وشرق المتوسط، حسب ادعائه، معتبراً أنها عازمة على حماية مجالها الحيوي المتسع في حدوده الجديدة. لسنا نأخذ بعين الجد التهديدات الإيرانية لإسرائيل، لكن الحقيقة الماثلة للعيان هي أن الخطر الإيراني وصل إلى أعماق الأمن الاستراتيجي العربي، وأنه أصبح يستند إلى مرتكزات قوية على الأرض يتعين التعامل معها بما يقتضيه التحدي من جدية ومسؤولية. كما لا يغيب عنا أن الضربة الغربية (الأميركية البريطانية الفرنسية) لمراكز إنتاج وأبحاث الأسلحة الكيماوية السورية المحظورة لن تغير نوعياً المعادلة القائمة في سوريا، حيث الاتجاه الواضح هو استعادة النظام المدعوم روسياً وإيرانياً السيطرة على جل المناطق التي خرجت عن تحكمه خلال السنوات الست الأخيرة، بما يعني عملياً فشل «الثورة السورية» رغم مصاعب الانتقال السياسي ومخاطر التحول الجاري. ورغم تباشير هزيمة «داعش» في شمال العراق، لا يبدو أن المشكل الكردي في طور الحل بعد أزمة استفتاء الانفصال، ولا أن النخب السنية العربية في الشمال والوسط قد استعادت ثقتها في الدولة المركزية، بما يترك الباب مفتوحاً لأكثر الاحتمالات سوءاً. في اليمن، لولا تدخل التحالف العربي لكانت البلاد -التي لا يزال شمالها بيد المتمردين الحوثيين- أشلاء ممزقة، وفي ليبيا حالة مماثلة من التفكك والتمزق في الوقت الذي تتشكل جغرافية سياسية جديدة مبنية على الانتماءات القبلية والإثنية. ما نريد بيانه هو أن ما نشهده حالياً ليس أقل من بروز خريطة جديدة للشرق الأوسط بمفهومه الواسع، ليس من السهل استكناه اتجاهاتها، بيد أنه من الممكن الإشارة إلى محددين كبيرين لهما الأثر الحاسم في الديناميكية الراهنة: أولا: تضاؤل دور ونفوذ القوى الغربية التي رسمت منذ بدايات القرن العشرين شكل النظام الإقليمي الشرق أوسطي، ونعني بها القوى الأوروبية (بريطانيا وفرنسا وإلى حد أقل ألمانيا وإيطاليا والنمسا) ثم الولايات المتحدة الأميركية التي افتكت لنفسها الدور الرئيسي منذ الحرب العالمية الثانية. ومن المفارقات المثيرة هنا أن روسيا التي أُخرجت عنوة من إدارة المسألة الشرقية بعد الحرب العالمية الأولى، أصبحت اليوم اللاعب الدولي الأول في المنطقة بحضورها العسكري المباشر ورؤيتها الاستراتيجية المنسجمة لنظام إقليمي أوروآسيوي يشمل بالإضافة إلى حزامها في شرق أوروبا، بلدان البلقان وآسيا الوسطى والشرق الأوسط، أي العالم العثماني القديم الذي كان في الماضي هدفاً ثابتاً لأطماع القياصرة الروس. وفي الوقت الذي تنافس الصين المشروع الروسي المستند للقوة العسكرية بمشروعها للعولمة البديلة المستند لطريق الحرير الجديد بحلقته المحورية في المجال القوقازي الآسيوي الأوسط، لا يبدو أن القوى الغربية التي أخفقت خلال حروبها الشرق أوسطية في العقدين الأخيرين قادرة على تقديم مشروع استراتيجي ناجع للمنطقة، بل إن الاتجاه الغالب حالياً على القيادات الحاكمة فيها هو الانكفاء والانعزال. ثانياً: من الجلي أن المنطقة الشرق أوسطية شهدت في السنوات الأخيرة بتأثير انهيار الكيانات الوطنية المركزية بروز أنماط جديدة من الهندسة السياسية لا يبدو أنها حالات مؤقتة عابرة. ومن مؤشرات هذه الهندسة السياسية ثلاث ظواهر كبرى تحتاج للمتابعة والتحليل: مناطق النفوذ الدولية التي تزايدت بحكم التدخل الأجنبي وأصبحت بالفعل خارج سيادة الأنظمة الحاكمة (كما هو الحال في سوريا)، انهيار المؤسسات العسكرية المركزية وبروز ميليشيات بديلة في سياق منطق عسكرة العمل السياسي وتدويله، إعادة تشكل الهويات القبلية والطائفية والإثنية في مجالات إقليمية متجانسة (عبر سياسات التصفية العنيفة في الغالب). ليس من السهل وفق هذه المعطيات الرجوع لنموذج الدولة الوطنية السيادية، والخشية متزايدة من تعميم الهندسة السياسية البلقانية للمشرق العربي، كما ألمحت مؤخراً بعض أوساط الحكومة الروسية بخصوص الحالة السورية. وفي ضوء تلك المعطيات يتعين السؤال عن إمكانية بروز وتحقق مشروع عربي يضمن المطلبين الملحين اللذين تقتضيهما الأوضاع الاستراتيجية والسياسية العربية راهناً، وهما: استعادة أسس ومرجعيات النظام الإقليمي العربي وتسوية الملفات الداخلية المتفجرة في البلدان المنكوبة بالفتن الأهلية والتدخل الخارجي. ورغم صعوبة المهمتين، لا يمكن للأطراف العربية الفاعلة التي تتولى اليوم مسؤولية الدفاع عن القضايا العربية وترميم العمل المؤسسي العربي المشترك، أن تتقاعس عن الدورين رغم حدة الاختراق الأجنبي وضعف المظلة الدولية الداعمة.