يروي كتاب جديد للمؤرخ الأميركي «كريس جانيننج» قصص ولادة الحركات الطوباوية التي عرفتها الولايات المتحدة والتي حاولت إقامة المجتمع المثالي، وانتهت إلى كوارث إنسانية مفجعة. ويحمل الكتاب عنواناً يدل على مضمونه، هو «الجنة الآن: قصة الطوباوية الأميركية». وتعريف المجتمع المثالي أو المجتمع الكامل هو المجتمع الذي يتوسل الدين أداة للوصول إلى الهدف المنشود. وهو ما جرى في الولايات المتحدة في القرن التاسع عشر ومطالع القرن العشرين. وهو ما تحاول أن تفعله بعض الحركات الدينية في الشرق الأوسط. ويقول «جانيننج» إن أياً من تلك الحركات لم تعمّر طويلاً، وإنها كلها فشلت في تحقيق أهدافها، وكانت موضع سخرية. وأحصى أكثر من مائة حركة عرفها المجتمع الأميركي منذ عام 1800 حتى منتصف القرن الماضي، وقدم نماذج عنها أبرزها «جماعة أونيدا»، التي قامت في نيويورك على أساس علماني. ودعت إلى ما أطلقت عليه في ذلك الوقت «شيوعية الإنجيل». وبموجب تعاليمها كان كل شيء مشتركاً بين أبناء الجماعة من الأملاك، حتى النساء. وقد أسس تلك الحركة «روبرت أونيدا»، وهو من أصل بريطاني كان يملك طاحونة للقمح، قبل أن يهاجر إلى الولايات المتحدة. وفي عام 1825 اشترى قطعة من الأرض في إنديانا، وأقام عليها مزرعة ومصنعاً، وحوّلها إلى موقع لاستقطاب المزارعين والفنانين والمثقفين. وكان يقدم لهم أدوات العمل والطعام مجاناً.. وهو أول من أقام مدارس مختلطة للبنات والصبيان، وشجع على الدراسات والأبحاث العلمية. ولكن في مجتمع رأسمالي بامتياز كالمجتمع الأميركي بدت هذه الجماعة وكأنها خارج الإطار العام، إذ عاشت الطوباوية الشيوعية التي سرعان ما تبددت واندثرت كأنها لم تكن. ولأن الجماعة كانت متعددة الآراء والعقائد، فقد انقسمت على نفسها، وانفرط عقدها في عام 1827. ومنها «جماعة التكامل الجديد»، وقد أسسها متديّن إنجيلي يدعى «روبرت أوين»، و«جماعة الإيكاروسيون»، نسبة إلى بطل الأسطورة اليونانية أيكاروس. وتقول تلك الأسطورة إن «إيكاروس» هرب من جزيرة كريت بوساطة أجنحة من الريش والشمع. وكان أبوه قد نصحه بأن لا يطير في ضوء الشمس. ولكنه لم يسمع النصحية، فذاب الشمع وسقط في البحر. وكان مبتدعها شيوعي فرنسي هاجر إلى الولايات المتحدة ويدعى «إتيان كابيه». ومنها أيضاً «جماعة الهزازون» أو المرتعشون، والذين كانوا يؤدون صلواتهم على طريقة الدراويش بالحركات والاهتزازات الجسدية. وقد أسست هذه الحركة مهاجرة من مانشستر في بريطانيا تدعى «آن لي»، وكانت تتبع كنيسة «الكويكرز»، إلا أنها لم تنجب إلا أطفالاً ميتين، أو أطفالاً لم تكتب لهم الحياة. ولذلك شكلت جماعتها على أساس تحريم الجنس ليوفروا على المرأة معاناة الحمل والإنجاب. وقد ازدهرت هذه الجماعة، وانتشرت في ثماني ولايات أميركية. وقد عُرف عن أعضائها الاستقامة في التعامل مع الناس. وكانوا يمارسون مراسم تعبدية راقصة هدفها كبعض الحركات الصوفية الإسلامية، «الذوبان في الروح القدس»! لم تعش أي من تلك الحركات طويلاً. ولكن امتداداتها في المجتمع الأميركي لا تزال مستمرة حتى اليوم. ولعل من أبرز مظاهر ذلك أن حركة تحرير المرأة بدأت من هناك، وتحديداً من المهاجر الفرنسي «فورنييه» نفسه الذي رفع شعار «إن أي مجتمع لا يمكن أن يتحسن ما لم تتحسن أوضاع المرأة»، وكتب في عام 1808 يقول:«إن أفضل الدول هي التي تسمح للمرأة بالتمتع بأكبر قدر من الحرية». في ذلك الوقت كان هذا القول بمثابة إعلان الثورة على تقاليد المجتمع الأميركي وعلى مفاهيمه الدينية الإنجيلية المحافظة. إلا أن المرأة عنده، كانت في علاقتها مع الرجل، وفي حريتها الشخصية، الركن الأساس في الطوباوية المنشودة! وإذا كانت الولايات المتحدة بدأت البحث عن الطوباوية منذ القرن التاسع عشر من خلال تطلعات المهاجرين للتحرر من القيود التي عانوا منها في بلادهم الأصلية، فإن جماعات عديدة أخرى من العالم اليوم، بما في ذلك العالم الإسلامي، تبحث هي الأخرى عن طوباوية تتوسل الدين أحياناً، والتحرر من القيود الاجتماعية والفكرية التي تفرض عليها باسم الدين أحياناً أخرى. فالطوباوية من حيث هي تجسيد للمجتمع المثالي أو للمجتمع الأمثل، هي سراب.. غير قابل للتحقيق والإمساك. وذلك لسبب رئيس واحد، كما يقول المؤرخ جانيننغ. وهو أنه لا يوجد أساساً مجتمع مثالي.