ماذا نقول عن قرابة سبعة عقود من المقاطعة والقطيعة بين النفس الواحدة، منذ عام 1945 وحتى ساعة المصافحة بين الزعيمين عند خط الهدنة الفاصل بين قلب كوري نصفه في الجنوب ،والنصف الآخر في الشمال، ضحية حرب لم يجن من ورائها «الشمالي» إلا بُعداً. شهقت أجهزة الإعلام بلا استثناء، عندما تلاقت اليدان، وتوقفت الأنفاس عن الزفر وتصلبت العيون عن الحركة، حتى تدرك حقيقة ما ضاع، وطبيعة ما هو يمكن استعادته بعد هذه الكارثة الإنسانية قبل أن تتحول إلى السياسة والاقتصاد، وغيرها من ضرورات العلاقات الطبيعية بين جارتين كانتا دولة واحدة فيما قبل خمسينيات القرن الماضي لا ينبغي اختصار هذا المشهد في حركة العبور المختصرة بين الزعيمين عند خط الهدنة، بل الجرح أعمق من ذلك، والخرق أوسع مما نتصور. فهل هذا اللقاء أكثر من مجرد تسجيله حدثاً استثنائياً لشعبين كانا في حضن دولة واحدة آمنة مطمئنة، لولا صدمة النظامين المتضادين في الوقت الذي رفض الشعب هذا التضاد والانفصام بين الوالدين وتوابعهما. هذا الانحدار إلى خط ما تحت الهدنة من دفع ثمنه أليس الشعب وحده؟ وهل بعض الحكومات تحتاج إلى عقود جديدة لكي تدرك بأن وحدة الشعوب أقوى بكثير من حِدّة الحكومات في الخصومات. هل يمكن اعتبار هذا الحدث بالنسبة لكلتا الدولتين يوماً للصفح العظيم أو الجميل «فاصفح صفحاً جميلاً» هذه المعاني الراقية، ستأخذ مجراها ومسارها الطبيعي في بناء علاقة ندية متوازية بين دولتين تقطعت بهما الأرحام، وتفجرت فيها الألغام، ومات بعض الناس فيهما وهم نيام. يخطئ من يظن بأن هذا التوتر المستمر بين الكوريتين شأن داخلي، وليس العالم جزءاً منه، فلم التركيز عليه ما دمنا نعيش في أجزاء أخرى في سبات ونبات؟ كم كان الجنوب طوال السنوات الماضية نهراً متدفقاً، ويداً ممتدة إلى الشمال، بل كان يدفع بالوحدة والشمال يرد بالصواريخ العابرة للقارات وإغراق الغواصات، والصبر السياسي هو الذي أوقف عودة الحرب رغم أن الأصابع لم تفارق زناد البندقية لعقود، فهل هذا الوضع سليم سياسياً، فإذا كانت للدول حدود، فلذلك للصبر الدبلوماسي حدود، لقد غلب أخيراً حد الصبر الجنوبي لقطع دابر الحد الحربي. يبدو أن عقل كيم يونج الحفيد أدرك في الساعات الأخيرة لوقوع حرب كورية أخرى تحوِّل القارة الآسيوية برمتها إلى برميل بارود أشد من براميل الأسد التي تلقى على رؤوس الأبرياء قبل الأشقياء. فذاك يتضرر منها الصين أولاً، وروسيا ثانياً، واليابان ثالثاً، والهند رابعاً، وكل دولة أخرى تقع حول هذا الربع المتقاطع في أضلاعه ومصالحه، بسبب من عناد عقود من التراكمات التي لم تضف إلى رصيد كوريا الشمالية غير أصفار أخرى من الفقر الإنساني قبل المعيشي. ولكن بالمقابل الأخت الجنوبية التي اختارت الهدنة والعيش في قارب التنمية والتقدم والبناء للمستقبل ذهبت إلى مداها في التنافس عبر العالمية المعولمة، فمن يتحمل هذا الخراب المهين لشعب كان قاب قوسين من اللحاق بالجنوب لولا تلك الاستنكاف والاستكبار في غير محله ولا وقته. لِمَ نذهب بعيداً، فإن الصين التي كانت تذهب متناسقة مع خط كوريا الشمالية السياسي لم يواصل اقتصادها ذاك الخط الذي أصبح صعباً على القراءة، لأنه غدى خربشة الأطفال الصغار الذي يصعب فك حروفها، فكيف بإدارة دولة به. وروسيا ذاتها خرجت من عباءة الاتحاد السوفييتي لتتنفس أكسجين القرية الواحدة مع بقية الدول التي تريد البقاء لشعوبها بعد موجات الفناء في سيبيريا، وغيرها من البلدان التي حولت القطارات بدل أن تحمل مخرجات التنمية المستدامة إلى العوالم، كانت تنقل توابيت الأموات إلى المجهول. وليس مثال ألمانيا الشرقية عنا كذلك ببعيد، فالشعب في 1990 قرر أن يدفع بسوره إلى الأمام، ويجعل منه بوابة نحو أختها الغربية، فها هما الآن تقودان من ميركل المرأة «البرلينية» الحديدية قاطرة الاتحاد الأوروبي نحو آفاق قد لا يسع الخيال إدراكها، فما الذي يمنع الكوريتان أن يكونا القاطرة الآسيوية العظمى للدفع بالقارة بأجملها للحاق بركب الاتحاد الأوروبي، عبر البوابة الآسيوية التي تمثل مساحة ثرية من العطاء لصالح البشرية في جانبها الحضاري بعيداً عن حمولات الأيديولوجية، سواء كانت ماركسية لينينية أو شيوعية حمراء، فلم نُضَيِّق بذلك شرايين السياسة على الكرة الأرضية التي تجد فيها سعة لكل الأفكار البناءة، بعيداً عن حمولات السلبية؟. نتفاءل بكل جهد سياسي يقرب بين الناس مسافات القلوب، قبل تقريب خطوط الحدود السياسية والجغرافية بين الدول. فالشعبان في الكوريتين واحد، وجاء الوقت أن يعيشا طبيعيين في حراكهما السياسي نحو كل ما يخدم المشاريع البينية التي تساهم في ترسيخ دعائم السلم الآسيوي والعالمي معاً فلا نستطيع اليوم أن نجزئ السلام بين الشرق والغرب، فها هو العالم يضج بالمشاكل، فلا وقت لمزيد من الحروب بكل أنواعها الباردة أو الساخنة، فالوقت ثمين وضياعه كارثة.