كلما تأملت الأوضاع القاسية والظالمة في بعض أقطار أمتنا المنكوبة، إما بالاحتلال الإسرائيلي أو بالاحتلال الفارسي، تردد في مسامعي صوت الموسيقار الكبير محمد عبد الوهاب وهو يشدو بالشطر الأول من البيت الشعري الأول من قصيدة الشاعر علي محمود طه والذي يقول: أخي جاوز الظالمون المدى. هذه القصيدة لم تعد الإذاعات والتلفزيونات العربية تذيعها لتقادم العهد بها. أول مرة سمعت هذه الأنشودة كنت طفلاً في الرابعة وأنا أمسك بيد أبي وسط زحام شديد في محطة القطارات في بورسعيد، حيث جاء الأهالي ليودعوا كتائب شباب الفدائيين المتطوعين المسافرة إلى فلسطين لنجدة الشعب الفلسطيني. لم يكن جميع الشبان المتطوعين من المصريين، بل كان بينهم شبان من أقطار عربية مختلفة. أدركت بعد سنين من النضج أنني سمعت الأنشودة أول مرة عام 1948، وبدأت أقرأ في كتاب التاريخ بالمدرسة الابتدائية عن النكبة التي حلت بالشعب العربي في فلسطين في ذلك العام، والتي انتهت بسبعمئة ألف فلسطيني إلى التشرد والتحول من أصحاب دور وأراضٍ إلى أناس معدمين لا يملكون شيئاً، بعد أن فقدوا ممتلكاتهم وتحولوا إلى لاجئين يسكنون في المخيمات ويعيشون على التبرعات. لقد ظهر بعضهم في بورسعيد يبحثون عن مأوى وعمل، وكان أهل المدينة يظهرون لهم كل علامات التعاطف. على مدى سني الدراسة والتكوين ارتبطت كلمة الاحتلال في ذهني باحتلال فلسطين واحتلال فرنسا لتونس والجزائر، ولم أكن أتصور أنني سأشهد بعد ذلك بسنوات احتلالاً فارسياً لبلدان العرب بدأ بالجزر الإماراتية الثلاث (أبو موسى وطنب الصغرى وطنب الكبرى)، ثم راح يتمدد بالتغلغل والمليشيات المسلحة إلى العراق وسوريا واليمن. أصبح شطر بيت الشعر الذي يقول: أخي جاوز الظالمون المدى يتردد في مسامعي كلما اكتشفت تجمعات سكنية من الإخوة العراقيين والسوريين في كثير من المدن المصرية. عندما تحدثت مع بعضهم عرفت منهم أنهم من السنّة، وأنهم تعرضوا على أيدي المليشيات الإيرانية وأتباعها لمظالم عديدة مما اضطرهم لهجر بلدهم واللجوء إلى مصر وغيرها من البلدان العربية. لقد منحت نكبة تشرد السوريين والعراقيين على أيدي المليشيات الإيرانية وأتباعها فرصة دعائية ذهبية لإسرائيل لتدعي في كل مكان أن القضية الفلسطينية لم تعد السبب الرئيسي لعدم الاستقرار في منطقة الشرق الأوسط. هكذا للأسف أهدت إيران لإسرائيل ستاراً تخفي خلفه جرائمها التوسعية، وأصبحنا نحن العرب نعاني من الأطماع التوسعية القادمة من إسرائيل من الغرب ومن إيران من الشرق. بعد أيام تحل الذكرى السبعون لنكبة فلسطين في الرابع عشر من مايو، وهو اليوم الذي أعلن فيه دفيد بن جوريون رئيس «الوكالة اليهودية» وفرق «الهجاناه» العسكرية إقامة دولة إسرائيل. هذا اليوم الذي يحتفل به الإسرائيليون باعتباره يوم عيد الاستقلال، يحيي الفلسطينيون ذكراه باعتباره يوم النكبة. منذ ذلك اليوم في عام 1948 شهدت المحافل الدولية والأممية صدور قرارات عديدة تؤكد حق الشعب الفلسطيني في أرضه، وتطورت القرارات الدولية والعربية في اتجاه حل الدولتين وإقامة سلام بين الشعبين الإسرائيلي والفلسطيني على أساس انسحاب إسرائيل من الأراضي التي احتلتها في الرابع من يونيو 1967 في الضفة الغربية وقطاع غزة. للأسف، فإن أطماع اليمين الإسرائيلي في الضفة الغربية تقف حجر عثرة في وجه هذا السلام المنشود، تماماً كما تقف أطماع المتشددين الإيرانيين في وجه سلام عربي إيراني.