من السهل أن يحاجج المرء بأن اليسار الأميركي مقبل على نصر عظيم بالنظر إلى أن بواعث القلق الاقتصادية للطبقة العاملة لم تعالَج؛ والمقاومة قوية وملتزمة سياسياً؛ والثقة في الرأسمالية آخذة في التراجع. وعلاوة على ذلك، فإن 42 في المئة فقط من الشباب (مواليد عقدي الثمانينيات والتسعينيات) يتبنون الرأسمالية، وفق استطلاع لجامعة هارفارد، بينما يرفضها 51 في المئة. كما أن «الجمهوريين» يبدو أنهم حوّلوا أنفسهم إلى حزب أقلية يزداد شيخوخة. و«الديمقراطيون» المعتدلون لم يعودوا يشكّلون قوة. وهناك اتجاهان سياسيان قويان فقط في أميركا حالياً: الشعبوية الترامبية والتقدمية وفق أسلوب بيرني ساندرز/ إيليزابيث وارن. وبينما تخسر الترامبية، تتقدم التقدمية. ولكن، ما الذي يمكن أن نقوله عن النظام التقدمي المقبل؟ أمران اثنان. أولا، إنه سيمثل تحولاً حاسماً عن ليبرالية بيل كلينتون المعتدلة وحتى ليبرالية باراك أوباما. وثانياً، إنه على الرغم من بعض الكلام السخيف الذي قرأناه وسمعناه مؤخراً، إلا أنه لن يكون ماركسياً. فمن بين المميزات التي تميز الماركسية: الإيمان بأن مشاكل الاقتصاد الحديث جزء أصيل من النظام الرأسمالي؛ وأن الرأسمالية ستنهار في نهاية المطاف، وأن هناك نظاماً بديلاً. وأعتقدُ أن هذه الأفكار رُفضت من قبل معظم من يوجدون في «اليسار»، ذلك أنه أصبح واضحاً، بالنسبة لليساريين الموضوعيين، أن الرأسمالية أنتجت أكبر انخفاض في الفقر في تاريخ البشرية؛ وأن مشاكل الرأسمالية أكثر تفرداً - مع محنة الطبقة العاملة في البلدان الغنية غالباً. وعلاوة على ذلك، فإنه لا يوجد بديل. وفي هذا الصدد، يجادل عالم الاقتصاد «دين بيكر» بأن من السخافة أن ينظر من هم على اليسار إلى الاقتصاد باعتباره العدو: «فالسوق مجرد وسيلة؛ وهي مرنة وطيعة» إذ يمكن تشكيلها لإعادة توزيع الثروة صعوداً، أو يمكن تشكيلها لإعادة توزيع الثروة نزولً». والهدف بالنسبة لمعظم من هم في اليسار ليس هو استبدال الرأسمالية، وإنما إصلاحها من أجل جعلها تعمل بشكل أفضل للجميع. وهذا ينطوي على مهمتين كبيرتين. الأولى هي إعادة كتابة القواعد من أجل إعادة توزيع الثروة. وفي هذا السياق، يتخيل بيكر، ضمن مجموعة من المقالات بعنوان «تأملات حول مستقبل اليسار»، جملة من الطرق التي يمكن من خلالها تحقيق ذلك: فرض ضريبة على العمليات المالية من أجل إضعاف سلطة «وول ستريت»؛ وتغيير السياسات النقدية من أجل إيلاء الأولوية للتوظيف الكامل؛ وتغيير قوانين الشركات من أجل تسهيل خفض رواتب المديرين. أما المهمة الثانية، فهي تأمين ضمان اقتصادي للجميع. وهذا يشمل رفع الحد الأدنى للأجور على الصعيد الفيدرالي إلى 15 دولاراً للساعة، وتوفير دخل أساسي عام، وجعل الحكومة الفيدرالية توفر وظيفة ذات دخل لكل من يرغب في ذلك. والواقع أنني كنت سأختلف مع هذه الأجندة لأسباب براجماتية تتعلق بالسياسات؛ ولكنها على الأقل ستكون أجندة إنسانية. فهي أجندة عامة إيجابية تستهدف التضامن الاجتماعي والتماسك الوطني – ونحن جميعاً معنيون بهذا. غير أنني لا أعتقد أن هذا هو التيار اليساري الذي سنراه أمامنا. ذلك أن العشائرية باتت بين ظهرانينا، على اليسار وعلى اليمين على حد سواء. وهي ترتكز على عقلية الندرة، أي فكرة أن الحياة حرب أشبه بمعادلة صفرية بيننا وبينهم. كما أنها تشدد على الانقسام والنزاع، وليس التضامن والتلاحم. وتطيل النزعات السلطوية في أي حركة. فعلى اليمين، تجلب لنا العشائرية سلطوية دونالد ترامب الاثنية. وعلى اليسار، يبدو أن من المحتمل أن تجلب لنا السلطوية الاقتصادية نسخة أميركية شمالية من هوجو تشافيز. ويمكن للمرء أن يرى دخول السلطوية إلى اليسار عبر منفذين. الأول هو القومية. ففي الأمس القريب، كان معظم اليسار الأميركي يميل إلى التفكير على نحو عابر للحدود الوطنية جزئياً، لأن مشاكل مثل تغير المناخ هي عالمية، وجزئياً لأن من الصعب تقنين اقتصاد عالمي وفق تفضيلات كل دولة على حدة، وجزئياً لأن التقدميين كانوا في ما مضى يكرهون القومية. أما التيار الثاني الذي يغذي السلطوية الاقتصادية، فهو السياسة القائمة على الهوية. إنها «المانوية» نفسها، أي: القامع مقابل المقموع، والمحظوظ مقابل المحروم، والمهيمن مقابل الضحية. النزاع لا مفر منه. ونهاية العالم وشيكة. فحافظوا على نقاء المجموعة. وأغلقوا الجانب الآخر. إنها الحياة السياسة الطائفية في أوج صورها. وقد رأينا في فنزويلا كيف استخدم سياسي خطاباً طائفياً ديماغوجياً لإقامة نظام سلطوي ثم دمر شعباً. وأنا على يقين من أن الكثير من أصدقائي اليساريين يؤمنون بأن ذاك النوع من عقلية نحن/هم القبلية لن يختطف حركتهم ويفسدها؛ ولكن باعتباري شخصاً عاش خلال الثلاثين عاما الماضية من التيار المحافظ، فإنني هنا لأقول لكم إنه يستطيع أن يفعل. فالسياسيون قرروا هذه الأيام أنهم لم يعودوا في حاجة للمفكرين بعد اليوم. ينشر بترتيب خاص مع خدمة "نيويورك تايمز"