طوّر الدبلوماسيون الأميركيون على مدى عقود عدة قواعد سلوك غير مكتوبة ولم تتخذ شكل قوانين ولكنها تُعد مع ذلك مهمة. وتتمثل في سلسلة من القواعد التي جرى تطويرها على مر السنين، ومررها الدبلوماسيون الأكبر سناً إلى الدبلوماسيين الشباب باعتبارها ممارسات نافعة ومفيدة. لكن قواعد السلوك هذه أصبحت محل تشكيك وهجوم من قبل رئيس أميركي غير تقليدي. القاعدة الأولى هي أن الدبلوماسيين ينبغي أن يكونوا صادقين ويقولوا الحقيقة. فعندما يردون على انتقادات لأميركا، يجب أن يكونوا صادقين تماماً. والواقع أنهم غير مضطرين لقول كل ما يعرفونه، لأنهم مطالَبون بحفظ الأسرار، غير أن أي شيء يقولونه يجب أن يكون دقيقاً وغير مضلل. ومسؤولية التحلي بالصدق وقول الحقيقة لا تستند إلى واجب أخلاقي وإنما عملي. فلكي يكونوا فعالين، يجب أن يبنوا الثقة مع الأشخاص الذين يتعاملون معهم، ولهذا فإنه لا يمكنهم أن يجازفوا بقول أشياء غير حقيقية يمكن أن يكشف زيفها. وبالتالي، فالدبلوماسيون يقولون الحقيقة لكي يكونوا فعالين. لكن إحدى المشاكل المطروحة بالنسبة للدبلوماسيين الأميركيين اليوم هي أن الصحافة الأميركية تقوم بعملية التحقق من صحة المعلومات والأخبار، وتفيد هذه الأخيرة بأن بعض كبار المسؤولين لا يقولون الحقيقة دائماً. وفي هذا السياق، أحصت صحيفة «واشنطن بوست» أكثر من 3 آلاف مرة في رئاسة ترامب القصيرة لم يكن فيها صادقاً. وقد سمع الأجانب هذه التقارير، لهذا، فإنهم يتساءلون حول ما إن كان الدبلوماسيون لا يقولون الحقيقة أيضاً. وهذا يُضعف مصداقية الدبلوماسيين وبالتالي فعاليتهم. القاعدة الثانية من قواعد السلوك هي أن الدبلوماسيين الأميركيين ينبغي أن يشرحوا المؤسسات لأميركية ويدافعوا عنها في وجه الانتقادات المجحفة. فالأميركيون فخورون بما تتمتع به أميركا من حرية صحافة، وممارسات ديمقراطية، ونظام تعليمي، وجيش، وقضاء. ويعلمون أن هذه المؤسسات ليست مثالية ولا تخلو من عيوب، وعندما ينتقد أجانب نقاط ضعفها، فلا بأس من الاعتراف بعيوبها. وعلى سبيل المثال، فإن الكونجرس الأميركي كثيراً ما يعاني مما يشبه الشلل بسبب الصراعات بين الحزبين وقد يكون غير قادر على التعاون بشأن سن تشريعات مفيدة، وعلى الدبلوماسيين الأميركيين الاعتراف بهذا. لكن إذا شنّ أجنبي هجمات مجحفة على مؤسسات أميركية، فينبغي على الدبلوماسيين أن ينبروا للرد عليه. والحال أن الرئيس ترامب انتقد كثيراً مؤسسات أميركية مهمة لدرجة أنه بات من الصعب على الدبلوماسيين الأميركيين تصحيح الانطباعات السلبية عندما تكون خاطئة. وعلى سبيل المثال، فإنه يندّد بالصحافة باعتبارها مليئة بـ «الأخبار الكاذبة» عندما يكون بصدد الرد على انتقادات دقيقة له لا تعجبه. كما ندد بشدة بوكالات الاستخبارات الأميركية دون أن يقدم أدلة على صحة اتهاماته، وذلك خلافاً للرأي الغالب في الولايات المتحدة، والذي يرى أن هذه الوكالات دقيقة في ما تقوله. وينتقد أيضاً قرارات صدرت عن محاكم أميركية عندما تحكم ضده، من دون أن يقدم ما يثبت صحة اتهاماته. والواقع أن انتقادات ترامب العامة للمؤسسات الأميركية الأساسية قوية وشاملة، ما يجعل من الصعب على الدبلوماسيين الأميركيين الدفاع عن نزاهة تلك المؤسسات أثناء أحاديثهم مع أجانب، وذلك لأن كلمات الرئيس الأميركي لها وزنها. والقاعدة الثالثة للدبلوماسيين الأميركيين هي دعم التحالفات الدولية. ذلك أنهم يؤمنون بأن انخراط الولايات المتحدة منذ الحرب العالمية الثانية في حلف شمال الأطلسي، والأمم المتحدة، ودعمها تحالفات جديدة مثل «اتفاقية التجارة الحرة لأميركا الشمالية»، و«الشراكة عبر المحيط الهادئ،» يخدم المصالح الوطنية للولايات المتحدة عبر خلق شراكات يتقاسم فيها أعضاء آخرون أعباء القضايا المشتركة. غير أن الرئيس ترامب لا يتوانى عن انتقاد حلف «الناتو» والأمم المتحدة و«نافتا» و«الشراكة عبر المحيط الهادئ» ومؤسسات أخرى باعتبارها تضع أعباء مجحفة على الولايات المتحدة. ويبدو أنه لا يقدِّر المزايا التي تتيحها عضوية تلك التحالفات والتي يشعر بها معظم الدبلوماسيين الأميركيين. والقاعدة الرابعة للدبلوماسية الأميركية التقليدية هي أنه ينبغي على الدبلوماسيين أن يتعاملوا مع الخصوم من دون استفزازهم. فهم يشرحون الولايات المتحدة وسياساتها ويدافعون عنها، لكنهم يحاولون ألا يخلقوا عداوات مع خصومهم، وأن يبقوا على الحوار. كما يسعون وراء أرضية مشتركة وفرص لجَسر مصالح الخصوم مع المصالح الأميركية. وبهذه الطريقة، يُظهرون الاحترام لخصومهم، ويحددون مساحات الاتفاق، مما يعزز فرص التوافق. غير أن الرئيس ترامب يتبنى موقفاً صارماً؛ فقد عبّر علانية عن انتقادات شديدة لبعض خصوم أميركا، كوريا الشمالية مثلا، حيث انتقد الرئيس كيم شخصياً، وعلى نحو غير مسبوق، واصفاً إياه بـ«رجل الصواريخ القصير». والحال أن مثل هذه الانتقادات الشخصية الصادرة عن رئيس أميركا هي شيء غير مسبوق، وتمثل إحراجاً للدبلوماسيين الأميركيين المعتادين على أسلوب آخر للخطاب الدولي. ويرون أن مثل هذه اللغة الحادة والقوية مستفزة على نحو غير ضروري، وقد تؤدي إلى رد فعل قوي من قبل الخصم الذي يمكن أن يعمد إلى التصعيد على نحو تخرج معه الأمور عن نطاق السيطرة. لقد تجاوز الرئيس ترامب عدة تقاليد قديمة وأوجد مشاكل جديدة للدبلوماسيين الأميركيين المحترفين. لكنهم مجبَرين على اتباع سياساته. بعضهم استقال لأن التحديات الجديدة أكبر مما يطيق، في حين اختار آخرون البقاء ومحاولة بذل قصارى جهدهم في سبيل خدمة مصالح أميركا. وفي الأثناء، يواصلون محاولة اتباع قواعد السلوك غير المكتوبة متى استطاعوا، لإيمانهم الراسخ بأنها نافعة ومجدية. *دبلوماسي أميركي سابق