لست أدري إن كان يحقُّ لنا الاستنجاد بالتراث الفلسفي بمدارسه المختلفة منذ ما قبل التاريخ، وخاصة الفلسفة اليونانية، لفهم ما يحدث اليوم في فلسطين، لكن لا نملك نحن المنشغلين والمشغولين بدنيا الكلمة، سوى السعي للاقتراب رفضاً أو قبولاً، تحليلاً وتوصيفاً، من الحالة الفلسطينية الراهنة في سياقها العربي والدولي، حيث نراها مأساة بكل ما تحمل الكلمة من معنى، وبالتعبير اليوناني هي«تراجيديا».. تلك الكلمة التي توظف اليوم تطبيقيا في عالم الفن، ونحاول على مستوى العربي أحياناً أن نقدمها ضمن أعمال مسرحية أو في المسلسات والأفلام، ولكننا لا نُطيق مواصلة التعبير عنها إما لعجز في الأداء، أو ضيق في الأنفس يظهر في التعبير، أو لرؤية مُبيَّتة من كتاب السيناريو، حيث يعملون على إعادة الواقع وإنتاج كل ما فيه، ومنه الضحك. مهما يكن فإن القضية الفلسطينية بأبعادها البشرية والجغرافية والتاريخية تحولت في ظل المعطيات الحالية، ونتيجة لتراكمات من أخطاء الأفعال السياسية، إلى مأساة، يحاول جلٌّنا على المستوى السياسي أن يختصرها في عمل فني، ضعيف في محتواه وسيء في إخراجه، انطلاقا من أنها مبنية على قصة تاريخية، هي عند سَاسَة عرب أقرب إلى الأسطورة منها إلى الواقع، وهم هنا يطبقون ربما دون وعي المعنى الحرفي لكلمة تراجيديا اليونانية التي تعني «أغنية الماعز»، نسبة إلى طقوس مسرحية ودينية كان يتم فيها غناء الكورس مع التضحية بالماعز في اليونان القديمة، وهي بالنسبة للشأن الفلسطيني اليوم تتعدى التمثيل، أو حتى التأثر به، إلى تطبيقات حية على النحو الذي رأيناه منذ يومين في ذكرى النكبة، حيث الشهداء والجرحى الفلسطينيين يقدمون ضحايا من أجل قضيتهم العادلة، وكل العالم الذي لديه أو كانت لديه مشكلة، مع اليهود على مرِّ التاريخ، يرى في مأساتهم عبارة عن تضحية بالماعز. بعيداً عن الشروح والمفاهيم الخاصة بالتراجيديا، التي تطورت عبر العصور، ومع رفض للواقع العربي، وحتى العالمي، خاصة الأميركي، في تعامله مع فلسطين من حيث هي تعبير عن مأساة لم يعد في مقدور أهلها الخروج منها، وبالتالي عليهم التسليم بالواقع، بل وتحويلها إلى كوميديا عبر العيش في كنف وأمان الدولة العِبْرِيَّة، فإن المؤسسين الأوائل للتراجيديا على المستوى المفاهيمي في اليونان، لهم آراء مختلفة عن تلك التي يميل إليها العرب في ضعفهم أمام العدو الإسرائيلي، ومنهم الفيلسوف أرسطو، الذي يقرّ ثلاث قضايا كبرى أساسية بالنسية للعمل التراجيدي، أولها: أن هيكله لا ينبغي أن يكون بسيطاً بل معقداً وأن يمثل الحوادث التي تثير الخوف والشفقة، وثانيها: أن التغير في الحال نحو التعاسة والمأساة لا يعود إلى أي خلل أو عيب أخلاقي، ولكن إلى خطأ من نوع ما، وثالثها: إذا كان السقوط في هذه المحنة ناجماً عن سبب خارجي، فأنه «بلية» وليس مأساة. استناداً إلى فكرة أرسطو السابقة، فإن الشعب الفلسطيني في بليَّة، ما يعني أن أحواله ستتغير من الأسوأ إلى الأفضل، وإن كان أرسطو يرى «أن التغير من الجيد إلى السيئ هو الأفضل، لأن هذا يؤدي إلى إثارة الشفقة والخوف داخل المتفرج»، لكن نحن العرب لسنا متفرجين على مشاهد المأساة، ولكننا شركاء فيها، في أضعف الحالات وجدانياً، وخوفاً من تبعات الشراكة مع الفلسطينيين على المستوى الإيماني، وعلينا أن ندرك جميعاً وخاصة ومن بيهم صناعة القرار، أن قتل الفلسطينيين في احتفالية إسرائيلية لـ«أغنية الماعز»، لن تدوم طويلاً، وإن دامت فسيكون الجميع ضحاياها.