«في البداية لم تكن هناك قارات، بل كانت اليابسة الأرضية كلها كتلة عملاقة واحدة يكتنفها المحيط العالمي العظيم. وعندما تَجّزأت الأرض وبدأت القارات تتكون، انفصلت شبه الجزيرة العربية عن أفريقيا قبل عشرة مليارات عام، ومكثت جزيرة صغيرة مساحتها أقل من أربعة آلاف كيلومتر مربع، قرب سواحل اليمن الجنوبية، ولأنها انعزلت عن العالم فنباتاتها لم تختلط بأنواع أخرى، وحافظت على خلقتها الفريدة كما كانت قبل ملايين الأعوام». هكذا بدأتُ مقالتي المنشورة في سبتمبر عام 1995 بعنوان «سُقُطرى آخر جواهر البيئة العالمية.. هل تسقط في يد الحضارة؟»، ومرفقة بالمقالة صور أخاذة عن نباتات «خيار» (قثاء) لا تنمو كالمعتاد على عرائش زاحفة، بل تحملها على هاماتها شجيرات ضخمة. وصور ورود صحراوية تخفي رؤوسها على شكل درنات تحت الرمال، وعند سقوط المطر ترتفع متفتحة فوق سطح الأرض. وصورةُ واحدة من أغرب الأشجار في العالم تشبه بالشكل مظلة مقلوبة تنزف عندما نجرحها صمغاً أحمر قرمزياً، يسميها السكان المحليون شجرة «دم الأخوين». و«سُقُطرى: قصة جزيرة ساحرة»، عنوان كتاب مصور عنها صدر عام 2014 بالإنجليزية، وفيه يذكر مؤلفه «منير بن وبر» أن أكثر من ثلث نباتاتها متوطنة لا مثيل لها في العالم، ويعيش فيها 221 نوعاً من الطيور النادرة عالمياً، و27 منها لا توجد في أي مكان من العالم، و6 أنواع من الأفاعي غير السامة، وثلاثة أنواع من سرطانات البحر، وعناكب كبيرة بحجم قبضة اليد، و14 نوعاً من اللبائن، بينها الجمال، والحُمُر الوحشية، والقطط البرية، والماعز، والأغنام. و«سُقُطرى» فرصة ثمينة للمجتمع العلمي العربي ومنظمات البيئة العربية، بادر إليها «صندوق محمد بن زايد لحفظ الطبيعة» الذي غطّى تكاليف تقصي ميداني قامت به باحثتان أكاديميتان من إسبانيا اكتشفتا أن سر بقاء أشجار «دم الأخوين» يعود إلى سحليات ليلية تلقحها عندما تتغذى على رحيق زهورها، وتحافظ بذلك على بقاء إحدى أندر أنواع الأشجار في العالم. والمفارقة بين قُبح السحليات المتسللة ليلاً لامتصاص رحيق زهور أشجار «دم الأخوين» الجميلة، يعكسها عنوان البحث «الحسناء والوحش»، الذي صدر العام الماضي بالإنجليزية في مجلة «حفظ الطبيعة»، وساهم في تحويل أبحاث حفظ الطبيعة العالمية من التركيز على أنواع حية معينة إلى دراسة التفاعلات البيولوجية بين الأنواع. و«سُقُطرى» متحف حي يحفظه سكانها البالغ عددهم 60 ألفا يتعهدون أقدم تراث للتعايش الإنساني مع الطبيعة. قالت لي ذلك «ميراندا موريس» عالمة الأنتروبولوجيا في جامعة «سانت أندروز» بسكوتلندا، وذكرت أن «سُقُطرى» حافظت على ثرواتها الطبيعية «بفضل موقعها المنيع قبل كل شيء، وطبيعتها القاسية، ومعرفة سكانها الحميمة بنباتاتها، واستخدامهم المنضبط لها، وفهمهم الشامل لبيئتهم، مصدر حصافتهم عبر القرون». وذكرت الباحثة التي صدر لها كتاب «مجموعة نباتات سُقُطرى»، أن النباتات لعبت دوراً كبيراً في تكوين ثقافة السكان المتميزة بقيمها الأخلاقية في المشاركة والتسامح والتعاون والتعامل المهذب. ويشرف رؤساء القبائل في «سُقُطرى» على وضع وتنفيذ قواعد وأعراف تنظم علاقة السكان بالبيئة، وتحافظ على الموارد الطبيعية. ويقضي العرف مثلاً بعدم قطع الأشجار الحية، وباستعمال الأغصان اليابسة للوقود، وبالتعاون في تنظيم انتقال قطعان الماشية، وهي الثروة الرئيسية للسكان، من موقع إلى آخر، للحيلولة دون الإفراط في الرعي. والأماكن التي نهواها كأوطاننا لا نغادرها ولا تغادرنا أينما نكون، ونجفل عند ذكرها. وأنا تجفلني أخبار «سُقُطرى» التي تبدو من بعيد مثل غيمة فوق سطح المحيط الهندي، تضم 850 نوعاً نباتياً، كثير منها يعيش في فجاج الذرى المنيعة لجبل «هجهر» الذي يبلغ ارتفاعه 1500 متر، ويشكل المنظر الرئيسي للجزيرة وسبب تسميتها «جزيرة السديم».