لم يكن قرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب بإلغاء الاتفاق النووي مع إيران مفاجئاً، فالرجل، وعلى خلاف كافة من سبقوه، يوفي بوعوده الانتخابية مهما كانت صعبة ومهما اتفق معه هذا الفريق أو ذاك، وهي بحد ذاتها ظاهرة انتخابية أميركية مستجدة. بعد الاتفاق مباشرة في عام 2015 ذكرنا في هذه المساحة أن إيران بعد الاتفاق ستصبح أكثر عدوانية ولن تستوعب الهدف الأساسي منه ولا موازين القوى بين الأطراف الموقعة عليه، مما أدى بالفعل ولو مؤقتاً إلى أن تغض كافة الأطراف الموقعة النظر عن برامج إيران النووي السري وتطوير صواريخها الباليستية وزيادة تدخلاتها المثيرة للاضطرابات من خلال المليشيات في الدول العربية. حيث أدى إفراج إدارة أوباما عن 150 مليار دولار من الأموال الإيرانية المجمدة إلى تسهيل هذه المهمة وتوسيعها، خصوصاً وأن بعض هذه الأموال تم إرساله نقدا لطهران بطائرات خاصة، مما يعني أن الشعب الإيراني لم يستفد شيئاً من هذه التدفقات النقدية، والتي توزعت بين التمويل الخارجي واستحواذات الفساد الداخلية لكبار المسؤولين. إلغاء الاتفاق اقتصادياً ستكون له تداعيات مدمرة على الاقتصاد الإيراني المتداعي أصلا، وهو ما يفسر رد الفعل الإيراني المذل تجاه قرار إلغاء الاتفاق، فبعد أن هددت طهران وتوعدت الولايات المتحدة قبل الإلغاء، عادت بعده لتؤكد تمسكها به مع الأطراف الأخرى! إلا أن خروج واشنطن منه سيؤدي إلى إعادة كافة العقوبات الاقتصادية والمالية، بل وزيادتها وتشديدها، كما قال ترامب. وفيما يتعلق بأهم صادرات إيران، أي النفط والغاز، فالمتوقع أن تتراجع هذه الصادرات بنسبة 40% خلال الفترة القادمة، ما سيحرم إيران من أهم مصادرها من العملة الأجنبية، وسيؤدي ذلك أيضاً -وهذه مسألة مهمة- إلى تجميد مشاريع النفط والغاز الجديدة والتي وقعت مع الشركات الأوروبية بعد الاتفاق، وبالأخص مع الشركات الفرنسية والألمانية والإيطالية، كما أن قطاعها المالي سيتقوقع مجدداً وستضطر طهران إلى المراوغة لإنجاز معاملاتها بتكاليف باهظة، بدليل انهيار عملتها الوطنية «التومان» بعد قرار ترامب لتسجل هبوطاً قياسياً جديداً. أما قطاع المواصلات فسوف يصاب بانتكاسة أخرى، إذ ستلغى طلبيات إيران لشراء طائرات جديدة، بما في ذلك 118 طائرة من شركة «ايرباص» بمبلغ 25 مليار دولار، علما بأنه تم تسليم بعضها، وكذلك 100 طائرة أخرى من «بوينغ» بمبلغ 17 مليار دولار، في حين ستخضع شركاتها وبنوكها الوطنية للمقاطعة، مما سيصعب من عمليات إنجاز المعاملات المالية وسيلقي بظله على التبادل التجاري لإيران مع العالم الخارجي، وهذا سيؤدي بدوره إلى تدهور التجارة الخارجية وتراجع الصادرات والإخلال بالميزان التجاري وميزان المدفوعات، وإلى تراجع كبير في الاستثمارات الخارجية القادمة لإيران. وستعود طهران مرة أخرى لتجارة المقايضة المكلفة، فمقابل النفط والغاز ستحصل على بعض احتياجاتها من السلع والخدمات، فيما ستحصل على عوائد البيع بعملات أخرى، كالروبية الهندية واليوان الصيني، وهو ما سيمنعها من تلبية التزاماتها مقابل الواردات وكذلك من تمويل عملياتها القتالية المكلفة في الخارج، مما سينعكس على حجم التمويل الذي تقدمه لمليشياتها في لبنان وسوريا واليمن وغيرها. وبالتأكيد ستحاول إيران، كما في السابق، الالتفاف على هذه العقوبات وإيجاد منافذ بديلة، لكن تجربة العقوبات السابقة، والتي أرهقتها، تؤكد فشل هذه المحاولات ومحدودية التحرك في نطاقها، فالأوروبيون مثلا يقولون حالياً إن شركاتهم ستواصل العمل في السوق الإيرانية، لكنهم سيخضعون في نهاية المطاف للعقوبات الأميركية، فحجم مصالحهم مع الولايات المتحدة يفوق كثيراً حجم هذه المصالح مع إيران، كما أن واشنطن مهيمنة على أسواق المال والنقد الدولية ولا يمكن إنجاز أية معاملات كبيرة دون سوق نيويورك المالية بسبب موقع الدولار كعملة دولية مهيمنة.. مما يعني أن أوقاتاً عصيبة تنتظر إيران وستزيد من معاناتها ومعاناة شعبها وربما تؤدي في نهاية المطاف إلى انهيار اقتصادي عام.