لم يفطن علماء السياسة كثيراً للغة كإحدى ركائز القوة الناعمة للدولة، إذ رأوها أحياناً متماهية مع الثقافة، أو واحدة من المهارات التي يجب أن يتحلى بها القادة والدبلوماسيون المحنكون، أو أنها لازمة من لوازم الاتصال السياسي، والتعبير عن المكانة والدور، أو أنها أداة لاستعراض ما ارتقته الدولة في مجال العلوم والفنون. لكن وجود اللغة كقوة يتعدى أن تكون مجرد واسطة أو وسيلة أو عالة على العناصر الأخرى التي تتسم بها القوة اللينة للأمم. ابتداء فإن علماء الاجتماع والسياسة لم يلتفتوا بالقدر الكافي إلى أن اللغة برهان على الواقع الاجتماعي، وأنها هي التي تشكل تفكيرنا حول مختلف القضايا والمتغيرات، وأن المسألة الاجتماعية أو السياسية الواحدة يمكن أن يختلف تفاعلها وتداولها وتأثيرها من مجتمع إلى آخر بسبب اختلاف اللغة بين الاثنين، وأن أعظم المؤسسات في أي أمة هو لغتها لأنها وسيلة تفكيرها، ومستودع تراثها من القيم الاجتماعية والعادات الذهنية. وتختلط قضايا اللغة بقضايا الأيديولوجيا والمعنى العام، في وقت نجد فيه البلاغة ذات مفهوم تداخلي تتطلع دوما إلى ما هو خارج الأدب، وهنا يقول الناقد الكبير مصطفى ناصف: «هناك خسارة بشرية ناجمة عن التعليم الضيق للغة أو التعليم الأدبي الذي لا علاقة له بما يقال في المتاجر والمصانع ودهاليز صنع السياسة والمواقف الاجتماعية المهمة.. الطاقة الشاملة للغة أمر لا يمكن أن ينحصر في دراسة أدبية، واتجاه النمو عملية عامة ترتكز على الاتفاق العام الذي يستوعب التنويعات الفعلية للحياة». على هذا الأساس فهناك لغة تتخفف من أساليب الحيل والمراوغة والمداراة، وتعلو فيه نبرة الصدق، والتعبيرات المباشرة، والمحددة، ولغة مناقضة لهذا تماماً. وبالطبع فإن شعباً يتحدث اللغة الأولى، ستختلف قيمه وتصوراته ومدركاته وتفاعلاته، وهي جزء أصيل من رأسماله الاجتماعي، عن شعب يتحدث اللغة الثانية. فاللغة لا تعكس الواقع بل تشكله، وقواعد كل لغة أو النحو الذي يحكم تشكيلها، يتعدى كونه وسيلة لتدقيق اللغة وضبطها، إلى أن يكون أحد أدوات إعادة تكوين الأفكار، ويعد في الوقت نفسه منهجاً ومرشداً نصل به إلى النشاط الذهني عند الفرد، وطريقة ومضمون تحليله للأفكار، وتأليفه لعناصر الكلام في رأسه قبل أن ينطق به، أو يصمت، ويختزنه، فصياغة الأفكار ليست عملية مستقلة حرة، ولا هي ممعنة في المنطق، بل هي جزء من قواعد النحو، يختلف من حيث قوة التأثير وضعفه من لغة إلى أخرى. وهناك لغة تحمل في باطنها، وفي حد ذاتها، ما يجعلها قوية وممكنة وقابلة للاستيعاب والانتشار، وأكثر وقعاً على الآذان والنفوس، وأخرى فقيرة فاترة مباشرة بائسة، لا تشجع، من يتحدثون لغات أخرى، على الاعتناء بها، أو إتقانها، حتى لو كانت الدولة التي تنطق بها لديها الكثير من عناصر القوة الصلبة واللينة الأخرى، التي تتيه بها على الآخرين. فعلى سبيل المثال صار وضع اللغة الإنجليزية في العالم يعطيها دور الحارس الدولي، الذي ينظم حركة البشر في أرجاء المعمورة، مما يربط بين أشكال الثقافة والمعرفة الوطنية وغير الوطنية الغالبة في العالم، وهي موصولة الأسباب أيضاً بمظاهر العولمة، مثل انتشار الرأسمالية ووسائل التنمية وسيادة وسائل الإعلام. وقد أصبحت هذه اللغة تقوم بوظائف وطنية وعالمية شاملة في كثير من البلدان الآسيوية والأفريقية، وهذا أكسبها مصدر قوة جديداً، لا يعزوه البريطانيون والأميركيون إلى القدرات الصلبة ولا اللينة لبريطانيا والولايات المتحدة الأميركية، إنما لفصاحة هذه اللغة، أو قوتها الذاتية. وفي حالات عدة نجد إعادة لإنتاج السيطرة عبر الكلام، حيث تلعب اللغة دوراً بارزاً، أو موقعاً مركزياً، بالنسبة للتفكير في السياسة، وإنتاجها في خطابات، وكذلك ممارستها، بل يستحيل ممارسة السياسة من دون اللغة، سواء في التواصل بين السلطة والشعب، وقبلها في تأسيس جماعات وتجمعات، هي خطوة أولية في اتجاه الفعل السياسي وتكوين الكيانات التي تحتاج إلى من يسوسها. وإذا كان مفهوم السلطة يستحوذ عليه الحدث السياسي، فإن اللغة هي وسيلة الإبلاغ عن هذا الحدث، وهي صانعة الفعل السياسي ومحققه لحيثيات إنتاجه، وقد تتقدم وتصبح أحياناً جوهر الحدث نفسه، لكن عموم الناس لا يدركون هذا. كما يقول عبد السلام المسدي. لهذا فإن أي دولة أو أمة لديها رغبة في تعزيز قوتها، وتحقيق نهضتها، فعليها أولاً أن تكتشف الجواهر الكامنة في لغتها، وأن تفجر طاقاتها المخبوءة، فبها فقط يمكن إلهاب حماس الناس كي يلتفوا حول مشروع وطني، علاوة على دورها في تعزيز الانتماء، والشعور بالأصالة والرسوخ.