شهر رمضان هو سيد الشهور، وصومه هو الركن الرابع من أركان الإسلام. إنه شهر الصيام والقيام، وقراءة القرآن، والاجتهاد في الدعاء وفي العطف على المساكين.. شهر الجود والاعتكاف والإقبال على الخالق والتقرب إليه بالعبادات والطاعات. في رمضان تفتح أبواب الجنة وتغلق أبواب النار وتقيد الشياطين، وينتقل المسلم من طاعة إلى أخرى، ومن عبادة إلى أخرى أيضاً، من الصلاة إلى قراءة القرآن، ومن الذكر والتسبيح إلى الدعاء وإفطار الصائمين، ومن قيام الليل إلى الاستغفار في الأسحار، ومن شكر الله على نعمه الكبيرة والكثيرة إلى الاستمتاع بطمأنينة الإيمان والتقوى. ورمضان هو الشهر الذي يتم فيه قهر الشيطان وإضعافه، لأن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، والصيام -كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم- يضيق مجاري الشيطان، فتنبعث القلوب والجوارح إلى فعل الخيرات وترك المنكرات. إن الصيام تدريب على استحضار مراقبة الله تعالى لنا، وعلى الزهد في الدنيا وشهواتها وعلى الإكثار من الطاعات وما يرغِّب فيها.. وبذلك يزيد الصائم أرباحه في «بنك الآخرة». وقد لخص لنا رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم فضائل رمضان العظيمة في كلمات موجزة عندما قال: «أيها الناس قد أطل عليكم شهر عظيم مبارك، شهر فيه ليله خير من ألف ليلة شهر، جعل الله صيامه فريضة وقيام ليله تطوعاً، مَن تقرب فيه بخصلة كان كمن أدى فريضة فيما سواه، وهو شهر الصبر والصبر ثوابه الجنة، وشهر المواساة، وشهر يزداد فيه رزق المؤمن، مَن فطّر صائماً كان مغفرةً لذنوبه وعتقاً لرقبته من النار، وكان له مثل أجره من غير أن ينتقص من أجره شيء». لذلك كان السلف الصالح يسلك نفس الطريق، يستعدون لرمضان قبل قدومه بعدة أشهر لينعموا بفضائله وخيراته الكثيرة، ولتستريح نفوسهم بالإقبال على الخالق والاتجاه بلذة إلى عبادته، وكلما اقترب وصوله كانت فرحتهم تشتد وتزداد لاستقباله، وبمجرد دخوله تتحول أيامه عندهم إلى ذكر وصلاة ودعاء وتلاوة.. يتلذذون بكلام الله تعالى، ويتدبرون آياته ويتداوون بها، ويصبح كل ذلك منهج حياة لهم. كانوا أبصر لدينهم بقلوبهم من أبصارهم، يقضون ليلهم سجداً وقياماً حتى تبتل مواضع سجودهم من دموع البكاء والخشية. وكان الإمام بن شهاب الزهري رحمه الله يقول: إذا دخل رمضان فإنما هو قراءة القرآن الكريم وإطعام الطعام. وكان الحسن البصري، رحمه الله، يقول: من نافسك في دينك فنافسة ومن نافسك في دنياك فألقها في نحره. ومن أفضل الطاعات في هذا الشهر قراءة القرآن وتلاوته، فقد كان عثمان بن عفان رضي الله عنه يختمه مرة كل يوم، وكان الإمام الشافعي رحمه الله له ستون ختمة. وكان بعضهم إذا جاء رمضان ترك العمل وتفرغ للعبادة، حتى أنه يروى عن الإمام مالك رحمه الله أنه إذا دخل رمضان ينهي درسه مع طلابه ومجالسة أصدقائه، ثم يقول: استأذنكم في مجالسة الصحابة ساعة، ويعني بذلك أنه يجالس ما رُوِّيَّ عنهم دراسة وتعلماً وفهماً.. وعلى هذا الطريق سار من بعده كثيرون إلى درجة أن كانوا يسمونه شهر الإقبال على الخالق جل وعلا.