كتب «حامي شاليف» معلقاً في صحيفة «هآرتس» (15 مايو) على حفل نقل السفارة الأميركية إلى القدس ومجزرة غزة التي واكبته، قائلاً إن الحدث قد دنّس صورة إسرائيل التي بدت للرأي العام العالمي قوة احتلال قاتلة، بل كشف عزلتها المتزايدة في المجتمعات اليهودية نفسها التي لم تعد تجد نفسها في التيار اليميني المتطرف الحاكم في تل أبيب والمتحالف مع الأحزاب الدينية والمدعوم من الجماعات الإنجيلية الأميركية المتشددة. المفارقة التي عبرت عنها الأحداث المأساوية الأخيرة هي أن إسرائيل التي بدت في سبعينيتها قوية متماسكة لا يهددها خطر خارجي، تتعرض لأزمة هوية متفاقمة لم ينفك الكتّابُ والمفكرون اليهود ينبهون إليها بقلق واضح. الإشكال الأكبر الذي تتمحور حوله هذه الأزمة، يتعلق بمآلات المشروع الصهيوني الذي بلور فكرة «الدولة القومية اليهودية» كحل سياسي لما سمي في نهاية القرن التاسع عشر بالمسألة اليهودية في أوروبا. لم يكن هذا الحل في البداية مسألة إجماع داخل النخب اليهودية، بل إن أهم الفلاسفة والمفكرين من أصول يهودية، منذ ماركس وفرويد إلى حنة آرندت وسارتر، اعتبروا أن فكرة الدولة الخاصة باليهود التي طرحها «هرتزل» وتبنّتها سلطات الاحتلال البريطانية، ليست سوى تعبير عن نزعة العداء للسامية التي اجتاحت أوروبا آنذاك باعتبار أن هدفها هو اقتلاع اليهود من مجتمعاتهم القومية وعزلهم في غيتو جماعي مغلق. لم تكن فكرة الدولة خياراً بديهياً، بل كانت حصيلة تحول كبير داخل المتخيل اليهودي بترجمة الوعود والأساطير المسيانية «الدينية» إلى لغة الدولة القومية السيادية وتحويل الدين اليهودي نفسه إلى أيديولوجيا قومية. النتيجة الأساسية لهذا التحول الأيديولوجي هي ما حذّرت منه حنة آرندت من أن الدين إذا ترجم إلى نزعة قومية أصبح بالضرورة أساس هوية إقصائية مغلقة لا يمكن أن تتأقلم مع فكرة المواطنة السياسية، ومن هنا اعتبرت أن الخطر الذي يتهدد إسرائيل من داخلها هو ضيق الجسم السياسي للدولة عن احتواء عدد كبير من سكانها يتحولون إلى لاجئين كما هو حال الشعب الفلسطيني. فشل إسرائيل إذن ليس في ضعف الدولة أو تهديدها الخارجي بل في إخفاقها في إحداث ما سماه الفيلسوف اليهودي الفرنس لفيناس «الكينونة اليهودية الجديدة»، أي التعبير عن «الهوية الروحية والأخلاقية للإنسان اليهودي». فالواقع القائم على الأرض هو تراجع خيار الدولة الفلسطينية المستقلة وتنامي واقع الفصل العنصري وانحسار العقيدة الصهيونية إلى أصولية دينية متطرفة مسلحة بواجهة ديمقراطية لا تتجاوز النسبة القليلة من سكان «الدولة». قبل سنوات كتب «ابرهام بورغ»، الرئيس الأسبق للكنيست، كتاباً مثيراً بعنوان «الخروج من الغيتو الصهيوني»، اعتبر فيه أن الحلم الصهيوني انتهى عملياً بعد أن تحول إلى غطاء للاحتلال والظلم والفساد، وليست صيغة «دولة الشعب اليهودي» التي يطرحها اليمين الإسرائيلي سوى التعبير الحي عن الفشل في بناء دولة وطنية ديمقراطية حديثة. من المعروف أن النزعة القومية العربية تزامنت من حيث النشأة مع الأيديولوجيا الصهيونية وتأثرتا بنفس السياقات الفكرية الأوروبية، وتعاملتا كلاهما مع الدين كمقوم أساسي للهوية، وإن كان من الفروق الجوهرية بينهما الأبعاد التنويرية الإنسانية التي ميزت النزعة العروبية التي حملها مفكرو النهضة والتحديث العرب، فيما تبنت الصهيونية التصورات القومية الألمانية الانكفائية العدوانية المغلقة. لقد طرحت الحركة الوطنية الفلسطينية في السبعينيات فكرة «الدولة الوطنية الديمقراطية» في أرض فلسطين، في مواجهة «الحل العنصري» الذي تبنته إسرائيل. ومن الواضح اليوم أن هذا المشروع هو الخيار الأمثل لمواجهة انسداد آفاق الحل السياسي السلمي نتيجة لسياسات الاستيطان التي ولدت جغرافيا سياسية جديدة مانعة لقيام الدولة الفلسطينية المستقلة. المطلوب راهناً للعودة للحل الديمقراطي في فلسطين هو استعادة وحدة الصف الفلسطيني، ومراجعة تجربة عسكرة مقاومة الاحتلال، والتخلص من الخط الأصولي المتشدد العاجز عن مخاطبة الضمير الإنساني إزاء مأساة استثنائية لا تعادلها مأساة في العالم الراهن.