برحيل الإعلامي المصري القومي أحمد سعيد(صوت العرب)، نكون قد طوينا مرحلة ثرية وطويلة من تاريخنا العربي في جانبه الإعلامي، حيث الاكتشاف، والاعتراف أيضاً، بأن الإعلام أطول عمراً من السياسة، وأقوى، وأكثر تحملاً للمسؤولية، لدرجة أن السياسيين يقودون شعوبهم وأممهم نحو الذل أحيانا، ويتحمل الإعلاميون ذلك، والدليل أن كل الأعمال التي قدمها الإعلامي المذيع أحمد سعيد، يرحمه الله وما حملته من تغطية لأعمال بطولية بصوته المؤثر اختصرت جميعها في هزيمة 1967، فقط لأنه أذاع أخبارها كما جاءته من جهات عسكرية وأمنية مسؤولة، في وقت لم تكن هناك فرصة للتأكد من صحة الخبر على النحو الذي نعيشه اليوم. وتُشكِّل تجربة أحمد سعيد درساً لكل إعلامي عربي، خاصة لجهة تحديد علاقته بالسلطة ونظام الحكم والجيش، ومؤسسات الدولة بشكل عام، إذ لا بد من تحديد مسافة بين الإعلامي ورجل السلطة، تكون حالة مميزة تجمع بين اعتماد أسلوب الاختراق عن بعد، وعدم الاقتراب من صانع القرار لأجل تفادي الاحتراق، ذلك لأن الإعلامي وخاصة الصحفي عليه أن يفهم صانعي القرار ومصادر الخبر، ويدخلهم معهم في علاقة مشتركة ذات طابع نفعي تخدم الصالح العام، لكن لا يمكن التعويل على صداقة دائمة بينهما، لأن تلك ليست مهمة الصحفي، بل إنها أحياناً تكون مناقضة لعمله، وتجربة الصحفي الكبير«محمد حسنين هيكل» مع الرئيس جمال عبد الناصر يصعب، وربما يستحيل، تكراراها في الوطن العربي. أمام الإعلاميين العرب اليوم تجربة ثرية رحل صاحبها ولاشك أن كل إعلامي عربي يتحرك بعيدا عن التبعيّة للسياسة وتوجهاتها واشتراطاتها، هو اليوم حزين أولاً لرحيل أحمد سعيد، وثانيا: لفشل المشروع الإعلامي العربي القومي، وهو يرى اليوم طحالب الإعلام المتزايدة، مرئية ومسموعة ومقروءة، تبثُّ الفتن وتشعل الحروب وتُسْهِم في سفك الدماء، لذلك علينا أن نستفيد من تجربة أحمد سعيد، خاصة في علاقة الإعلامي بالسياسي، ولنتأمل هنا القول التالي لأحمد سعيد، وفيه يتحدث عن لقاء جمعه بعبد الناصر، استمر ثلاث ساعات متواصلة، وكان ذلك بعد واقعة إذاعة برنامج خطأ، أثار حفيظة بريطانيا، لأنه تحدث عن البترول العربي، الذي تسرقه بريطانيا من الخليج العربي، وجاءت إذاعة هذا البرنامج في الوقت الذي بدأت فيه مصر تخفيف الحملة ضد بريطانيا، بعد توقيع اتفاقية الجلاء سنة 1954، يقول:«عندما تطرقت إلى موضوع البرنامج الخطأ، الذي أثار حفيظة بريطانيا، وقلت: أريد أن أبدى أسفي، قال لي عبدالناصر:«وضع طبيعي أن تحدث أخطاء، لا تشغل بالك، المهم أن نسبة أخطائك تكون أقل بكثير من نسبة نجاحاتك». عبد الناصر الذي أعطى لأحمد سعيد الأمان عند ارتكاب الأخطاء، وسبق أن قال للمشير عبد الحكيم عامر:« صوت العرب جيش مثل جيش المشير عامر»، وقال لأحمد سعيد:« ستعيش وتموت مديراً لصوت العرب»، هو من قبل استقالته استقالة إجبار كما يذكر صاحبها في يونيو 1967، وبرر أحمد سعيد ذلك بقوله:«إنني قلت الحقائق بصوتي، عن هزيمة يونيه 1967 للجماهير العربية، في 13 يونيو 1967، وكان هذا بداية الصدام أو الخلاف مع الرئيس عبدالناصر، لأنه بعد ذلك فرضت عليَّ رقابة، بحيث لا أذيع شيئاً دون مراجعته".. مهما يقال عن تلك التجربة اليوم، فما يُميِّزُها هو الموقف المبدئي للراحل أحمد سعيد، الذي فضل أن يظل إعلامياً في أيام النصر وسنوات الهزيمة، ولم يقبل أن يكون تابعا للسلطة.. فَلْيَكُن ذلك درب من يُحبَّ الخير لوطنه وأمَّتِه.