القراءة ذلك السلوك البشري الذي يجعل من العقل شراعاً لإبحارنا في الحياة، نجوب معه كل موانئ المعرفة.. فكيف نسير دون إدراك ذواتنا وإدراك العلاقة المعرفية التي تربطنا بتلك الكائنات العاقلة التي ننتمي إليها ونعيش معها (الإنسان)، وندرك تلك العلاقة التي تربط ما بيننا وبين الموجودات الأخرى التي تحيط بنا، وتؤلف العلاقات التي بيننا كبشر وبين كل تلك المفردات الكونية التي في النهاية تشكل الحياة بمنظورها المادي، وندرك مفاهيمها اللامادية من خلال العلاقات العقلية التي تربط ما بين نتاج تأملات العقول في الحياة والسفر عبر مكونها الميتافيزيقي. وتظل القراءة هي تلك الحالة من التخاطر ما بين العقول المتأملة والمدركة للحياة ومفرداتها والمنتجة للمعرفة وبين العقول الباحثة عن المعرفة، والتعرف على موقعنا في الحياة والعلاقات التي تربطنا بمفردات الكون المادية واللامادية. ومن هنا أقف عند تساؤل كثيراً ما راود عقلي وهو: (هل هناك حرية قراءة؟ وهل نحن لدينا حرية في اختياراتنا الفكرية؟ وما الفرق بين حرية القراءة والقراءة من أجل الحرية؟) أفكار الإنسان ما هي إلا نتاج تفاعل العقل الواعي مع الخبرات المتراكمة المستمدة من خلال مشاهداته الحياتية وتفاعله مع مفردات الحياة وأفكار الآخرين التي تشبع بها طوال حياته. من هنا يتشكل العقل الفردي ويبقى أمام العقل طريقان، إما أن يكون عقلاً ناقلاً يتسع للمزيد من آراء الآخرين، ويكون انعكاساً مرآتياً لفكرهم ومعارفهم دون أن يكون له حرية ذاتية في الاختيار وذلك لوجود خلل في إدراكه أن قيمة العقل لا تكمن في إعادة ترديد أفكار الآخرين فقط، ذلك الخلل الذي يتجاوزه النوع الثاني وهو العقل المنتج الذي يقرأ لإنتاج فكره الخاص فيصبح عقلاً فاعلاً ومبدعاً، ولكن هل يمكن أن يكون العقل بمعزل عن تأثير التكوين الأولي لأفكاره؟ الحرية تكمن في القدرة على الاختيار.. لماذا أنت تميل إلى أن تقرأ كتاباً في الفلسفة ولا تقرأ رواية، أو تقرأ كتاباً في علم الاجتماع ولا تقرأ في التاريخ. لحظة الاختيار تخضع لذوقك ولاهتماماتك. هنا ندرك أن الحرية في الاختيار ليست مطلقة، فأنت تخضع في لحظة الاختيار لمجموعة المعايير التي شكلت عقلك واستمدت من نشأتك الأولى، وقراءاتك وتعليمك ومجتمعك، وكل ما يحيط بك من مصادر المعرفة التي ساهمت بصورة مباشرة وغير مباشرة في بناء وتكوين مزاجك القرائي، فهنا أنت خاضع لتلك المعايير فلست حراً بصورة مطلقة في الاختيار، وإنْ كان هناك وهم يحيط بعقلك اسمه حرية الاختيار، لذلك أعتقد أنه من النادر الخروج من إطار المعرفة المنظمة لعقولنا، لذلك القراءة اختيار ذاتي حر جزئياً لكن بعدها نمتلك حرية الفكرة التي تُولد فتسبح في فضاءات المعرفة لتصل إلى شاطئ الاختيار، ثم تعلن الرحيل في فضاءات أخرى وهكذا تمتد متواليات الأفكار، التي تولد وتسكن ثم تعيد إنتاج نفسها من جديد. في إطار تلك العلاقة الجدلية ما بين القراءة والحرية هل القراءة يمكن أن تمنحك الحرية بعيداً عن واقع مكبل؟ وهل يمكن أن تصحح شعور الانحباس داخل قيود حياتية مادية أو لا مادية؟ من منظوري الذاتي أؤمن أن القراءة يمكنها أن تغير في وجدانك وتصنع لك واقعاً مختلفاً، حين تنغمس في النص وتتوشح بدثار الكلمات، ويتحول النص إلى سفينة تبحر بك إلى عالم خارج أسوار ذلك العالم الذي تحياه، فتجوب بحار المعرفة والحيوات الأخرى التي يشكلها النص، وتتحرر من القيود التي تحيطك، ومن هذا الإيمان طرحت تجربة (القراءة حرية) التي تتيح للمساجين في المؤسسات العقابية القراءة وتمنحهم عالما آخر يتحررون فيه من واقع التقيد بنتاج الخطأ البشري الذي ارتكبوه ليصبحوا داخل هذا القيد المجتمعي لنساعدهم على إعادة الاتزان النفسي والمجتمعي ومعايشتهم تلك الحرية التي تمنحهم إياها القراءة لتكون نقطة انطلاق لبناء أفكار تغير من الإنسان ليصبح أكثر إدراكاً لواقعه وبناء ذاته الجديدة لتتحول الحرية التي منحتها له القراءة إلى درب جديد وتتنامى علاقة جديدة ما بينه وبين الكتاب. ويظل للقراءة سحرها، ونظل مراوحين بين حرية عقلية جزئية في الاختيار عند القراءة وحرية روحية مطلقة تمنحها لنا القراءة.