كعجائز ثرثارات لا يتوقفن عن الكلام، ولو لسماع ما يقلنه، لأنهنّ يتكلمن أصلاً حتى لا يسمعن ولا يفكرن. هذه علة الإعلام الغربي الليبرالي مع «بوتين» وروسيا، فكيف ننتظر منه متابعة خط بوتين المباشر مع الجمهور، وقد استغرق أربع ساعات و20 دقيقة، حيث وجَّه له مواطنوه مليونين ونصف مليون رسالة عبر الهاتف و«اليوتيوب» ووسائل التراسل الاجتماعي. وشارك في «الخط المباشر» وزراء ومسؤولون، حسب طلب الجمهور، وأدار العملية 7 آلاف شخص في الموقع، ومراسلون عبر أصقاع روسيا، الممتدة على قارتين. وقد تابعتُ «الخط المباشر»، وانتهيتُ إلى مشكلة فلسفية في تفسير ما أرى. ولا يمكن فهم بوتين ولا روسيا دون فلسفة، وهذه مفارقة بحجم روسيا، التي تخلّت عن الفلسفة الماركسية، وهي الآن في بحار مفتوحة تعمي أنوارها العيون. وأهم ما يميز أسلوب خطاب بوتين أنه غير خطابي، فهو يتكلم بصوت خافت، يضطرني غالباً إلى رفع صوت التلفاز. وأكثر ما تدهشني ذاكرته الخارقة في متابعة تفاصيل اختراعات علماء «معهد كورتشاتوفسكي»، وأوضاع «قرى وأقاليم نائية، يعرف بالأسماء مسؤوليها، ويقيِّم أداءهم مباشرة، ومشاكل قلة المواليد، وأزمة السكن، والرعاية الصحية العامة، وحماية البيئة، والقضاء على الفقر. وفيما يلي مقتطفات من «الخط المباشر» تعكس سعة المواضيع التي طرحت على بوتين: سؤال: «هل تؤدي الأوضاع المتوترة مع الغرب إلى حرب عالميه ثالثه، تُستخدمُ فيها الأسلحة النووية؟». بوتين: «أتذكر جواب إنشتاين على سؤال حول ما إذا كانت الأسلحة النووية ستستخدم في الحرب العالمية الثالثة، وفيه قال: لا أعرف ماذا سيستخدم في الحرب العالمية الثالثة، لكن أعرف أن السيوف والرماح ستستخدم في الحرب العالمية الرابعة!..». واستبعد بوتين وقوع الحرب العالمية الثالثة لوجود «توازن الرعب»، والذي يستهجن مصطلحه. سؤال: «ماذا سنفعل بعشرات ملاعب الكرة التي أنشئت بمناسبة المونديال؟». بوتين: «نبقيها ملاعب لإطلاق حركة رياضية عبر روسيا، ولا نحوِّلها بأي حال إلى أسواق». سؤال: «وماذا بشأن عقوبة تجميد المصارف الغربية حسابات الرأسماليين الروس؟». بوتين: «حذرناهم من ذلك منذ أزمة عام 2008 التي خسروا فيها أموالا طائلة، ونصحناهم بوضع أموالهم في البنوك الروسية». ثم أضاف: «هذه الإجراءات ضد الأموال المستثمرة بالدولارات تُحطم الثقة بالدولار على المدى البعيد، إنهم يقطعون الغصن الذي يجلسون عليه». وفي الحديث عن «بوتين» في الغرب تتعارض وجهة النظر السائدة مع أحكام كُتاب يخرجون عن الخط العام، مثل «ديفيد بروكس»، معلق «نيويورك تايمز»، الذي يتساءل في مقالة عنوانها «من هو الرجل الأكثر نفوذاً في العالم»، ويجيب: «شخصياً سأصوت لفلاديمير بوتين». وقد سبقه الكاتب الفرنسي «جان بارفيولسكو» الذي اعتبر بوتين «رجل الأقدار» في كتابه «بوتين والإمبراطورية الأوروآسيوية». ظهر الكتاب مطلع تسعينيات القرن الماضي، وكان «بارفيولسكو» قد تنبأ في السبعينيات بانهيار الاتحاد السوفييتي، وتوقع أن يظهر عاجلاً أو آجلاً شخص من المخابرات السوفييتية يبعث الإمكانية الجيوسياسية لروسيا بعيداً عن الأيديولوجيا الشيوعية! وتحولات بوتين المستمرة ليست ذاتية، بل هي تحولات روسيا، حيث تتجايل تيارات الوطنية الروسية، والليبرالية الأطلسية، و«الأوروآسيوية» التي تبدو وكأنها العقيدة الاستراتيجية لروسيا. يذكر ذلك الفيلسوف الروسي «ألكساندر دوغين» الذي عمل فترة كمستشار للرئيس الروسي، ويعتبره «المجهول العظيم» في كتابه «بوتين ضد بوتين»، وفيه يرى «أهم ما في» بوتين «أنه لا يقدم جواباً، بل يقوم بالمهمة التي ينبغي القيام بها». ويذكر كيف أوقف منذ رئاسته الأولى عام 2000 تفكك روسيا، وقضى على مافيات الطغمة المالية التي حولت ثروات البلاد إلى الخارج. ومعضلته الأليمة الآن «كالماشي على حبل مشدود، ويتوقف في منتصف المسافة، لا يعرف هل يمضي إلى الأمام أم الخلف». ويختتم المؤلف كتابه بالعبارة: «ببساطة، إنه الأحسن».