مع بدء «مسيرات العودة» من قطاع غزة في ذكرى «يوم الأرض» وحتى اليوم، دخل القطاع معترك مسيرة المقاومة الشعبية للمرة الأولى، منذ خطة فك الارتباط أحادي الجانب (انسحاب جيش الاحتلال) في عام 2005. وقد احتلت أخبار المسيرات الشعبية عناوين الفضائيات والإذاعات والصحف العربية والدولية، مع تركيز أغلبها على كيفية قمع قوات الاحتلال للشبان الذين خرجوا من كل مدن القطاع للتعبير عن تمسكهم بأرض آبائهم وأجدادهم. وفي ذات الوقت، يكثر الهمس حول ما يسميه البعض «غياب» نضالات مدن الضفة الغربية، أو حول «تواضع» حراك شبانها الشعبي أمام حراك شبان غزة، مختزلين ذلك في القول إنها اقتصرت حتى الآن على فعاليات مرتبطة ببناء جدار الفصل العنصري، ومقاطعة منتجات المستوطنات، أو حتى على ردود فعل مؤقتة نتيجة اعتداءات المستوطنين المتكررة ضد الفلسطينيين. وهنا، بالذات، وقع المحظور حيث تتم المقارنة –على نحو سلبي- بين المقاومة في جناحي فلسطين المحتلة عام 1967، أي الضفة الغربية وقطاع غزة. هناك ثلاثة عوامل تؤثر سلباً على اتساع وديمومة المقاومة في مدن الضفة الغربية: أولها «التنسيق الأمني» المفروض من القوى الفاعلة في العالم وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية، وثانيها الوضع الاقتصادي الأعلى كثيراً منه في القطاع مع التشوهات الاستهلاكية التي أصابته خلال السنوات الماضية. أما ثالثها فهو تقطيع أوصال الضفة المفصولة والمعزولة مكوناتها عن بعضها بسبب المستوطنات والطرق الالتفافية، بالإضافة إلى الحواجز وجدار الفصل العنصري، عدا عن الاعتقالات اليومية والقمع الذي يمارسه جيش الاحتلال.. وهي عوامل تؤثر مجتمعةً بشكل سلبي على المقاومة الشعبية في الضفة، والتي –رغم الظروف الموضوعية القاسية آنفة الذكر– تتواصل بأشكال مختلفة. والأمر هنا ديالكتيكي يربط الفعل الاحتلالي برد الفعل المقاوم، باعتبار أن سياسة حكومة وجيش الاحتلال ومن ورائهما المستوطنون في الضفة، تقنع المزيد من الشباب الفلسطيني بالانضمام لدائرة العمل المقاوم وتوسع الحاضنة الجماهيرية للمقاومة. فتدمير المنازل والممتلكات، والاعتقالات الواسعة، والاستمرار في بناء المزيد من الأحياء الاستيطانية، وتحويل نقاط أخرى إلى مستعمرات كاملة رداً على العمليات الفدائية.. كلها مجتمعة تضيف مركبات جديدة إلى بيئة المقاومة. علينا عدم تجاهل أن الاحتلال في مدن الضفة الغربية يجثم مباشرةً على صدر الفلسطيني، في حين أن قطاع غزة المناضل الأبدي، وإن كان محاصراً من الجهات الأربع، لكنه «محرر». وهذا فارق حاسم، فالضفة الغربية تحت الاحتلال المباشر مستهدفة يومياً بالضم والقضم، ما يؤدي إلى صدامات يومية. ثم إن أطماع الدولة الصهيونية في الضفة الغربية («يهودا والسامرة») التي يهدفون إلى استيطانها، تفسر شراستهم في مواجهة أي مقاومة فلسطينية هناك، والتي هي –بحكم واقع الاحتلال وجرائمه– مقاومة يومية ولو متفرقة بسبب سياسة المعازل والإجراءات القاسية لتفتيت الضفة وتمزيق أوصالها. ودون تجاهل الفروقات الميدانية بين المكانين، من الخطأ المقارنة السلبية لأحوال الضفة بأحوال القطاع، ويكفينا «نجاح» الانقسام الفلسطيني الداخلي في التأثير السلبي على المقاومة الفلسطينية وعلى مجمل حركة الكفاح الوطني. وبالفعل، استمرت المقاومة في الضفة وحققت إنجازات ملموسة على الأرض كان لها تأثير عالمي كبير كحراك قرى بلعين ونعلين والمعصرة.. شبه اليومي، أثناء بناء جدار الفصل العنصري، والذي تحول إلى حراك أسبوعي يشارك فيه نشطاء عالميون، وما حققه هذا النضال في عدد من القرى لاحقاً من تغيير مسار الفصل (بلدات وقرى بلعين، بدرس، جيوس وغيرها). حقاً، لقد برز حراك غزة الشعبي من خلال المسيرات الحاشدة والأساليب الجديدة المستخدمة: طائرات ورقية حارقة، أنفاق، إطارات.. إلخ، إلا أن الضفة واصلت مسيرة المقاومة الشعبية، وأحياناً المقاومة المسلحة التي ترسخت في تحركات مستمرة قوامها الاحتكاك المباشر بالاحتلال، الذي تعيشه قرى وبلدات ومدن الضفة. وهذه المقاومة تجري منذ سنوات، واستطاعت من خلال فعالياتها توضيح الصورة للعالم بأكمله بأن هناك شعباً تحت الاحتلال، وهناك عدو يمارس الإرهاب بشكل يومي ضد شعب أعزل. ولعل الخصوصية في تجربة القطاع مردها أنه جرب الكفاح المسلح وإطلاق الصواريخ، فجاء رد فعل الاحتلال دموياً؛ فقتل المئات وجرح الآلاف من الفلسطينيين خلال الحروب الأخيرة على القطاع، والتي –للأسف- نظر بعض العالم لها بعين غير عادلة حين ساوى بين الضحية والجلاد. أما المقاومة الشعبية الراهنة فنجحت في تعرية جيش الاحتلال أمام العالم وأظهرته على حقيقته: جيش ذبح وقتل يطلق قناصته الرصاص دون تمييز على الشبان والأطفال والنساء والصحفيين والمسعفين وذوي الإعاقة. وعلى نحو متمم، نشهد المقاومة في مدن الضفة الغربية وقراها ومخيماتها. فقد عرفناها بوقفتها في أحداث المسجد الأقصى والقدس، وبوقفتها الحالية مع غزة والمطالبة برفع الحصار عن القطاع. ربما علينا تذكير أولئك الذين، بجهل، يتحدثون عن تراجع عمليات المقاومة في الضفة بالعمليات الفدائية الأخيرة، وما كان يترتب عليها من عقاب إسرائيلي عبر حصار القرى والبلدات، وكذلك عمليات الدهس والرعب الذي تحدثه وما يترتب عليها من هدم لمنازل المنفذين، وأيضاً حرب البلدات والقرى المعزولة ضد اعتداءات المستوطنين المدعومين بشكل واضح من جيش الاحتلال. وبعد، فهل من حاجة للتذكير بالصدامات شبه الأسبوعية مع نقاط التماس؟ وبأن الضفة هي صاحبة إبداع «الذئاب المنفردة»، والتي ظلت أجهزة الأمن الإسرائيلية عاجزة عن استباق عملياتها؟! وهل من حاجة للتذكير بالصدامات اليومية في مخيمات مثل الأمعري وقلنديا، وفي بلدات مثل سلوان والنبي صالح.. إلخ؟