بمناسبة مباريات كأس العالم الجارية هذه الأيام في روسيا، كتبت صحيفة «لوموند» الفرنسية عن اللاعب المصري البارع محمد صلاح، الذي «حبب الإسلام لسكان مدينة ليفربول»، معتبرةً أنه استطاع بأدائه الرياضي وسلوكه النموذجي التغلب على الصورة السيئة التي كرستها الجماعات الإرهابية عن الإسلام في الغرب. بالمناسبة ذاتها تصاعدت شعبية الرئيس البرازيلي السابق السجين «لولا دي سلفا» الذي تحول إلى معلق رياضي تلفزيوني من سجنه، بثقافته الرياضية الواسعة التي اكتسبها من تلمذته على اللاعب الأسطوري الطبيب والفيلسوف الراحل «سقراط»، الذي كان في الآن نفسه سياسياً ملتزماً قريباً من التيار اليساري العُمالي الذي ينتمي إليه «لولا». من الواضح إذاً أن لعبة كرة القدم انتقلت من السياق الرياضي البسيط، حيث كانت لعبة الفقراء التي لا تنتمي للرياضات النبيلة إلى واجهة الاهتمام العالمي الواسع، وأصبحت رهاناً اقتصادياً واستراتيجياً وإعلامياً واسعاً، إلى حد القول إن «الاتحاد الدولي لكرة القدم» (الفيفا) هو أهم وأغنى منظمة غير حكومية في العالم، وأبعدها تأثيراً في الرأي العام الدولي. قد يكون اللاعب المصري محمد صلاح من الاستثناءات النادرة في أيامنا بسلوكه الأخلاقي وصورته الرائعة التي تختلف عن صور بعض الرياضيين النجوم الحاليين، ذلك أن كرة القدم لم تعد تنسجم مع الصورة القديمة التي عبر عنها الفيلسوف الماركسي الإيطالي «أنطونيو جرامشي» بقوله إنها «مملكة الوفاء مجسدة في العالم الحي»، ولم تعد ملاذ الدول اللاتينية والأفريقية الفقيرة للتموقع على الساحة الدولية، بل تحولت إلى رهان أساسي من رهانات الرأسمالية العالمية الجديدة القائمة على اقتصاد الترفيه والرغبة، وتكشف الجسد في الشاشات اللامتناهية المباشرة. اللاعب الحالي لم يعد هو «بطل» العصور الحديثة الذي تتجمع فيه رمزياً صفات الصعلوك الشهم المغوار والفارس العصامي القريب من الناس، بل تحول إلى صورة النجم السينمائي الهوليودي، ورجل الأعمال المترف، بل صورة «المرتزق» حسب عبارة الفيلسوف «روبرت رديكر»، الذي أصدر مؤخراً كتاباً مثيراً بعنوان «هل ما زال بإمكاننا حب الكرة؟»، يتساءل فيه كيف يمكن الحديث عن مملكة الوفاء بخصوص لاعبين ينتقلون باستمرار ودون خجل بين النوادي الرياضية بحثاً عن المال والبريق دون أي وازع آخر؟ نموذج اللاعب الكروي الجديد ليس أسطورة كرة القدم البرازيلي «بيليه»، الذي أحبته جماهير الأرياف والأحياء العشوائية في أميركا اللاتينية، ولا الطفل الأرجنتيني الموهوب «مارادونا» الذي سحر ملايين البسطاء بأهدافه المثيرة وخروجه على المألوف، وكان يمارس الالتزام السياسي عبر الكرة، ويرى الزعيم الكوبي الراحل «فيدل كاسترو» أباً ثانياً له. النموذج الجديد للاعب كرة القدم هو اللاعب البرازيلي «نايمار» أغلى لاعب كرة القدم في تاريخ اللعبة (222 مليون يورو)، الذي هو أحد أهم نجوم المال والأضواء في مرحلة تحولت النوادي الرياضية إلى مجمعات تجارية كبرى لا تخضع لمعايير السيادة، المكان فيها لا هوية له والمتفرج لا كيان له انتزعت منه ساحته ومسرحه واقتلع من موطنه وأرضه. ومن هنا اعتبر «رديكر» إنما حدث ليس استغلال الكرة للصناعة الترويجية من أجل التوسع والتمدد وإنما استخدام الماكينة الترويجية لكرة القدم بتحويلها من رياضة إنسانية مشحونة بالعاطفة القيمية إلى إداة من أدوات الصناعة المرئية التي هي إحدى مرتكزات العولمة الجديدة. باستثناء حالتين نادرتين فازت فيهما البرازيل بكأس العالم في مباريات كرة القدم،توزعت الدول الأوروبية الصناعية الغنية بطولة العالم في هذه الرياضة الشعبية منذ عام 1990 (ألمانيا وفرنسا وإيطاليا وإسبانيا) واستأثرت النوادي الأوروبية الغنية بأهم اللاعبين من العالم كله ممهدة الطريق للسيطرة النهائية على كرة القدم التي هي المجال شبه الوحيد المتبقي لتجنيس الكفاءات الأجنبية في الدول الأوروبية ودمجها في النسيج المحلي لتحويلها إلى «أبطال وطنيين». كان الروائي الفيلسوف الفرنسي الشهير «ألبير كامو» (الحاصل على جائزة نوبل في الآداب عام 1957) يقول إنما أتعلمه من الأخلاق آخذه من الملاعب الرياضية أيام اشتغاله بكرة القدم في الملاعب الجزائرية، عندما كانت كرة القدم مدرسة للأخلاق، ورمزاً للقيم قبل أن تتحول إلى دائرة الترفيه المرئي المصنع، حيث تجرف عاطفة الإعجاب التي عدها ديكارت أهم الانفعالات البشرية إلى المتعة المصطنعة الافتراضية التي تغيب فيها المشاعر الإنسانية الحقيقية والتفاعل الحي التلقائي بين البشر. *أكاديمي موريتاني