مبادرة السلام العربية على الطاولة، ولكن إسرائيل قلبت الطاولة عليها منذ أوسلو وأكثر. بالمقابل العرب مستمسكون بهذا الخيار الإستراتيجي ويعضون عليه بالنواجذ، وإسرائيل بحكوماتها المتتابعة منذ النشأة الأولى متفقة على حرب السلام، فإذا لم تقم بذلك فما جدوى وزارة الحرب لديها بموازاة كل وزارات الدفاع في الدول العربية التي تنشد وتتغنى بالسلام، رغم حروبها التي لم تتوقف حتى الساعة، وهي الفكرة التي أرسى دعائمها مناحم بيغن في كتابه «سلام القبور». اليوم يتحدث الركبان في دهاة دهاليز السياسة عن هذا السلام المقبور، بالتحول إلى ما يسمى بـ «صفقة القرن» منذ تولي ترامب سدة الحكم في أميركا، وهي بالنسبة للعرب كحاطب ليل. السادات هو الرئيس الوحيد الذي قلب آية (وَإِن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا...)، «سورة الأنفال: الآية 61» بفعل الجنوح، وليس إسرائيل بعد الحصول على فتاوى شرعية أيضاً مقلوبة على الآية، فأعاد سيناء إلى حضن مصر، إلا أنه دفع حياته ثمناً لذلك. أثناء حماس العرب لمبادرتهم المجمع عليها، يغفل البعض بأن إسرائيل نشأت من خارج رحم القوانين السماوية والأرضية الممثلة بقرارات الأمم المتحدة التي تقر للشعب الفلسطيني الحق في دولة مستقلة بجوار إسرائيل التي لا تقر بذاك. الدولة الفلسطينية الموعودة خارج بنود وعد بلفور المشؤوم، ولكن داخل في بروتوكولات حكماء صهيون، مختلفة عن وعد «صفعة القرن» الجديد، ولا علاقة لها بالمبادرة العربية للسلام الشامل. تريد إسرائيل أن تحول فلسطين وشعبها الذي طردته من أرضه، إلى أقلية تذوب في حارات كل دول العالم ما عداها هي، لأن خطتها المعلنة منذ عقود إسرائيل كبرى هدفها السيطرة التامة على الشرق الأوسط الجديد، فكرة بيريز الذي ذهب وورث خلفه خريف «ربيع عبري» يواصل تحقيق أماني بيريز وهو مطمئن في قبره. إسرائيل منذ غرسها المسموم سياسياً، تسعى بكل ما تملك من أدوات الحكم والمال والإعلام وكل اللوبيات الصهيونية على مستوى العالم، وليس في أميركا فحسب، إلى دولة طبيعية وقد فشلت حتى الحظة التي تملك في يديها صكوك معاهدات سلام مع أكبر دولة عربية، وهي مصر العروبة والإسلام والأردن الدولة المؤتمنة على القدس والمسجد الأقصى، وهي الوازنة سياسياً أمام متطلبات عملية السلام التي لم تنته بالسلام. هذا على المستوى الرسمي، ولو أضفنا إليها تعامل دول عربية أخرى بطريقة ما ومن وراء كواليس السياسة غير الرشيدة ولا العادلة، فإن المعادلة السلمية التي يراد إرساء دعائمها في المنطقة، وهي لصالح إسرائيل بلا منازع، وإلا لما تجاسرت أميركا على نقل سفارتها إلى القدس وتدفع بل تضغط الآخرين وتهددهم للسير وراءها حتى من العرب، وكل هذا يحدث قبل أن تتكرم إسرائيل بالتنازل للتوقيع على المبادرة العربية المعلقة والتي كان فيها حلم إسرائيل. جاءت «صفقة القرن» المشبوهة للقفز على كل الثوابت والمبادئ التي أقرتها بنود المبادرة العربية ومعها كل قرارات الأمم المتحدة التي تنص على حق الشعب الفلسطيني في دولة مستقلة عاصمتها القدس الشرقية وليست «أبوديس»، كما يشاع في «صفقة القرن»، وهي طبخة «كوشنر» صهر ترامب. هذا الالتفاف على مشروع السلام، وليس في الشرق الأوسط يدخل ذات المشروع نفق أشد خطورة من كافة الأنفاق التي هدمت على حدود قطاع غزة ومصر باسم الحرب على الإرهاب، لأن قضية فلسطين بكل تجاذباتها ليست حقاً سيادياً لأي أحد يهرول في استباحتها تحت مسميات فضفاضة لم تقتنع بها الشعوب العربية، فضلاً عن الإسلامية، حتى الأوروبية غير المسيسة. إذا لم تستطع كل الدول العربية والإسلامية كبح جماح إسرائيل لصالح مبادرتها المركونة في زاوية النسيان، والتي لم تسع ولو لمرة واحدة ذكرها أو حتى الإشارة إليها كبادرة لحسن نية العرب تجاه محتل أكثر من غاصب، فإن كل محاولات الأنظمة العربية التي تمارس التطبيع الخفي أو الناعم لن تساهم في الإسراع بإنشاء أي كيان لمجرد إطلاق دولة فلسطين عليه إذا لم تكن هذه الدولة على هوى إسرائيل، التي لن تقبل من أي دولة فرض أي شرط عليها لأنها في موقف القوة، وإنْ كانت دولة بحجم الولايات المتحدة الأميركية التي حلفت الأيمان المغلظة استراتيجياً ألا تتخلى عنها في الرخاء، فكيف في حال الشدة القادمة لا محالة بحكم صراع الوجود لا الحدود.