ليست البلاغة قلادة زينة، مرصعة ببديع الكلمات والصور، إنما هي السير الواثق نحو إقناع المتلقي. ونظراً لحاجة الناس إلى امتلاك القدرة على الإقناع، في تفاصيل حياتهم كافة، فإن البلاغة لم تعد مسألة تخص اللغويين كما يظن البعض، إنما هي تشغل الجميع، مهما تفاوتت قدرتهم على التعبير، واختلفت مصالحهم وأغراضهم، سواء كانوا على دراية بهذا الأمر أم في غفلة منه. وهذه المسألة ليست بنت زماننا، فقد فطن فلاسفة الإغريق الأقدمين إلى ذلك، فعملوا على تدريب تلاميذهم على مهارات الإقناع. ومنذ أن وضع أرسطو كتابه «الخطابة» صارت البلاغة جزءاً أساسياً من التعليم الأوروبي، وبات الكل يمتثل لتفريق هذا الفيلسوف الكبير بين الخِطبَة السياسية التي يطلقها من بيدهم الأمر على مسامع الناس، والخطبة القانونية التي يترافع بها المحامون في المحاكم، والخطبة الاستعراضية المفعمة بتعبيرات تنطوي على مبالغات بغية التمجيد وتُلقى في جنائز علية القوم. وتأثر العرب بهذا التصور الأرسطي، لاسيما أن اللغة، بتركيباتها وتعبيراتها، كانت تلعب دوراً مهماً في إدراكهم للمواقف والأحداث والأشياء، لكن لم يلبث أن تراجع هذا الاهتمام، منحسراً من المجال العام إلى الدراسات التخصصية، بينما استمر الأوروبيون مهتمين بتتبع اندياح البلاغة في مختلف الحقول المعرفية، لاسيما علم الاجتماع وعلم النفس، وولدت مسارات في حركة بلاغة التساؤل، وعلم النفس البلاغي الخطابي، وعلاقة البلاغة بالنمو، علاوة على تاريخ البلاغة، والبلاغة السياسية. وفي مجال السياسة تجلت أشكال البلاغة في الخُطب السياسية، وتصريحات الساسة، والمناظرات الانتخابية، والبيانات والمنشورات، والمقابلات المطولة والمعمقة لكبار الذين في الحكم ومعارضيهم. وصار الساسة يقدمون ذواتهم للجماهير، وراح الكثير من هؤلاء ينظرون إليهم وكأنهم نجوم استعراض، ويتأثرون بسماتهم وقسماتهم الشخصية، أكثر من البراهين العقلية التي تتلمسها كلماتهم. وزاد من هذا أن المفاضلة على أساس أيديولوجي بين الأفراد والأحزاب والقوى والكتل السياسية قد تراجعت. ومع تعقد قضايا الحياة، لم يعد الجمهور لديه من سعة البال وتوقد القريحة ما يُمكّنه من متابعة التفاصيل التي تنطوي عليها البرامج والتصورات والمقترحات، ولذا يميل إلى الاختيار على أساس السمات الشخصية للقيادة، وهي مسألة تلعب فيها بلاغتهم، سواء من خلال المنطق اللفظي أو الإشارات الجسدية المعبرة، دوراً مهماً، راح يتصاعد مع الاعتماد على «بلاغة الصورة» في زمن التلفزة ثم الإنترنت. وفي ركاب هذه النزعة الاستعراضية تزايد استعمال المجاز، ليتم تصوير السياسة على أنها حرب، إدراكاً للصراع المحتدم الذي تصنعه، ويتم الاتجاه إلى كسر الأطر المفاهيمية المتصلبة للنظم السياسية القائمة، وتوظيف اللغة في التلاعب بمشاعر الجماهير، وهي مسألة يقدم التعامل مع قضية الفقر مثلاً ناصعاً لها، ففي الوقت الذي يستخدم فيه السياسيون بانتظام خطابيّ اللوم والتعاطف، اللذين يظهر فيهما المعادل السياسي لقيمتي «العدالة» و«الرحمة» فإنهم ينتقدون أولئك الذين لا يبذلون الجهد الكافي كي يتغلبوا على أوضاعهم الصعبة، ويرتقوا بحياتهم المادية. ومع تماهي البلاغة في الحياة العامة لم يعد الباحثون يقصرون تحليلهم للخطاب السياسي على ذلك الذي تنتجه النخبة الرسمية وغير الرسمية، وهو ما يسمى على ألسنة العموم «كلام السياسيين» إنما امتد إلى ما يتحدث به الأفراد العاديون، الذي يمارسون البلاغة، في نطقهم وسكوتهم، من خلال عمليات الدفاع عن الذات، وإدراك الآخر، والتعبير عن الموقف والاتجاه، والإسقاطات والإحالات، وكل ألوان التهكم والسخرية والشكاية، ومختلف درجات الاحتجاج، وممارسة العنف اللفظي والرمزي. ومن ثم فإن التأثير البلاغي لا يسقط من أعلى إلى أسفل فقط، بل يصعد من أسفل إلى أعلى أيضاً، إذ يتأثر العوام بخطاب النخبة، فيرددون بعض عباراتهم، لكنهم يضيفون إليها، أو يعبرون عنها على قدر أفهامهم، ومن ثم تأتي مسربلة في ثوب بلاغي جديد أو مختلف. في الوقت نفسه فإن الجمهور ينتج خطابه الخاص ويتداوله وينقله عبر الاحتكاك المباشر أو علاقة الوجه للوجه إلى أفراد النخبة، وقد يقوم بعض هؤلاء بنقل خطاب العوام في كتاباتهم، وأعمالهم الفنية، بشتى أصنافها، فيساعدونه على الذيوع والرسوخ في آن. من أجل هذا تحرص السلطة السياسية الذكية على ألا يكون خطابها منفصلاً تماماً عن البلاغة المتداولة في المجال العام، ولذا نجد كثيراً من الساسة، وإن ألقوا خطبهم بلهجة فصحى منمقة، فإنهم يخرجون أحياناً على النص المكتوب، أو يدلون بتصريحات بين حين وآخر يبثون خلالها بعض التركيبات التي تجعل المحكومين يشعرون أنها سلطة قريبة إلى أنفسهم، مدركة لما يشغلهم.